في استمرارية القصيدة الفلسطينية

28 يونيو 2022
يقدّم عبد اللطيف اللعبي للقارئ الفرنسي جيلاً ثالثاً من الشعر الفلسطيني (ميلتون مارتينيز)
+ الخط -

هل ثمّة أفضل من عبد اللطيف اللعبي للتذكير بالشعر الفلسطيني لدى القارئ الفرنكوفوني؟ لقد تَرجم لمحمود درويش ولسميح القاسم، وأنجز بداية من سنة 1970 أنطولوجيا أولى تحت عنوان "أنطولوجيا الشعر الفلسطيني المقاوِم"، وأردفها، بعد عشرين سنة من ذلك (أي سنة 1990)، بثانيةٍ جاءت بعنوان "الشعر الفلسطيني المعاصر"، وأُعيد نشرُها سنة 2002.

وها قد عاد الشاعر المغربي بأنطولوجيا ثالثة أفردها هذه المرّة للأصوات الجديدة في الشعر الفلسطيني. والنصوص التي اعتُمدت قام بجمعها زميله الكاتب والصحافي ياسين عدنان، وهي نصوص لستة وعشرين شاعراً وشاعرة وُلدوا ما بين 1974 و1998. وتحتضن الأنطولوجيا أقلاماً تنشط في القدس وغزّة ورام الله، كما تنشط في جهات االمعمورة الأربع، من الأردن إلى كندا، مروراً بفرنسا وألمانيا وإيطاليا وتركيا وأيسلندا.

"إنها ظاهرة فريدة في تاريخ الأدب: أن يُصبح اسمُ بلدٍ ــ والحديث هنا عن فلسطين ــ شِعراً في حد ذاته"، يكتب اللعبي منذ البداية في مقدّمته. فبعد جيل الرواد في الثلاثينيات، وجيل الستّينيّات والسبعينيّات المشهود بمكانته، جيل درويش والقاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان وآخرين، تأتي هذه الباقة الجديدة من الأصوات لتعزِّز القول الشعري الفلسطيني على الصعيد المحلّي وعبر أمصار الشتات.

وفي معرض إدانته هذا "الصمت الذي يخيِّم منذ عدّة سنوات على مصير الشعب الفلسطيني"، ينوِّه اللعبي، وعن حقّ، بالطابع الاستعجالي لهذا العمل، وبضرورة "التنديد بإنكار الحقّ وتنظيم فقدان الذاكرة". وفي حقل شعريّ يتجدَّد باستمرار، تندرج الأنطولوجيا في طقس إنصات ومُشارَكة، وتعيد التأكيد بقوّة على تضامن يسعى العديدون، حتى في العالم العربي، لتشويهه أو طمسه.

وكما هو منتظَر، فإن الأنطولوجيا تخترقها لازمةُ الأرض وصورة فلسطين مهدّدة وغير مستقرّة. فهذا أنس العيلة يُعلن أن "البلد الذي تضاءل مثل غيمةِ صيفٍ/ سيتناثرُ عمّا قريب/ مخلّفاً بقعاً صغيرة على الخارطة". وهذه الأرض التي ترتبط بثيمات الولادة والخصوبة، هذه "الأرض المشاع/ العصيّة"، كما تصفها رجاء غانم، ترفض رغم ذلك التنازل وتُواصل التنفّس تحت ظلال أشجار اللوز والزيتون. وبما أن هذه الأقلام الجديدة دائمة الإنصات للطبيعة، فإنها تستمدّ منها أشكال التعبير الجديدة. فعند هند جودة تُتيح قصيدة عن الماء التعبيرَ عن غموض المعيش ودأب الحنين. أمّا بالنسبة ليحيى عاشور، أصغر شاعر في الأنطولوجيا، فإن عناصر الطبيعة تفتح أفقاً للهروب والتناسخ.

أنطولوجيا ثالثة أفردها اللعبي لأصوات فلسطينية جديدة

فلسطين التي لا يَرِدُ اسمها أبدًا، تتوارى ليحلّ محلّها فضاءٌ شِعري رحب يُستَشعر فيه قلق الشاعر وهشاشة حياته اليومية والخوف بجميع ضروبه، بما فيه من أشكال الإقصاء التي باتت أليفة، كما في هذه الأبيات البليغة للشاعر نجوان درويش: "سيطردونني من المدينة قبل هُبوط الليل/ يقولون إنّي لم أدفع لهم فاتورة الهواء". وعلى طول الصفحات ننقل الخطى بين عنابر السجن وكتل الإسمنت، ونمرُّ من الزنازين الانفرادية إلى قاعات الإسعاف. ومن وقت لآخر ينبعث الصدى الأليم لحُلم البلد الذي لا يتحقّق أبدًا: "أسرفتُ سنين من شبابي وأنا أردّد:/ دولةٌ واحدة من النهر إلى البحر!"، كما تشير إلى ذلك، بمرارة، أسماء عزايزة.

إن البحث عن بيت خاصّ، البحث الموسوم بهذا الألم، يُسفر عن تنويعات شعرية عديدة. فهذه إيناس سلطان تريد دليلًا على أن لها بيتاً. أمّا آمنة أبو صفط، فهي تربط بين العزلة والشعور بأنها "سائبة/ كبيوت العجائز والمهَجَّرين"، ونلاحظ تردّد ثيمة الضيق، سواء تعلّق الأمر بالأرصفة "الضيّقة: التي تعجّ بـ"الهاربين" و"الحالمين" (أشرف الزغل)، أو ببيت يشبه "حوض ماء ضيّق" (حسن مخلوف)، أو بالحياة التي أصبحت "فقط ضيّقة" بالنسبة إلى امرأة توفّيت في جو من اللامبالاة والغُفلية (كوليت أبو حسين).

تُفْصِحُ الأنطولوجيا عن توتّر بين الجوّاني والبرّاني، بين الحاجة للانفتاح على العالم والخوف من الانجراف مع العنف والهباء. ففي حين يتحدّث مازن معروف عن التحوّل إلى باب ليمنع نفسه "من الخروج إلى حفرة العالم"، يشير هشام أبو عساكر إلى الأنا الطيّعة لشاعر أصبح "جثةَ حيرةٍ" تمتدّ من المدينة إلى الحجر. وفي أغلب القصائد يصبح الـ"هُناك" ضرورةً حيوية تقريبًا تقترن بالحاجة إلى إعادة بناءِ وجود وحياة مشتركة. ففي قصيدة بنبرات درامية ـ هزلية، يحلم غياث المدهون بأن يكون قادرًا على "إعادة تدوير" أصدقائه، الذين قُتلوا، على شكل أصدقاءٍ مستعملين".

أنطولوجيا الشعر الفلسطيني

هذا الميل إلى الصورة الساخرة وغير المعتادة ليس مجّانيًا. فغياث المدهون يطرح فرضية مفادها أنّ كلّ ما يحيط بالشعب الفلسطيني "يشبه مجازًا خارجًا من عالم افتراضي". فالمعيش الفلسطيني يترجَم باستمرار ويُعاد تأويله ويُصبح متعاليًا. ومن قصيدة لأخرى ينبعث معنى مشترك للمقاومة يكاد يكون معجزًا، هو هذه الطريقة التي بها يُعاد ابتكار المقاومة بمكوّنات من المرارة واليأس.

هذا النمط من المقاومة يتجلّى في طريقة تناول الموت، الذي غالبا ما يُقْرَنُ بالولادة وشجرة الأنساب. فمن عزلة الشهيد إلى قبور الأحباب، يسكن الموت القصائد ويصبح في أغلب الأحيان مرجعًا شخصيًّا أو عائليًّا. "أنا لم يغب الموتى من حياتي" تشير أبو حسين، فـ"وحدهم الأحياء مَن فعلوا". وفي معرض حديثها عن ذاكرة أفراد عائلتها، بين فلسطين الأجداد وكويت المنفى الأبوي، تقول جمانة مصطفى: "مات جدّي حيث وُلد/ ومات أبي حيث وُلدنا/ صار اسمي الثلاثي حيًّا يجرّ أمواتًا". وفي القصيدة تُعَبِّرُ هذه المسارات المتوازية في الآن ذاته عن العروة الوثقى بين الأجيال وثقلِ الغياب المتوارث والمؤبَّد.

يتَّضح إذاً أن الشعر الفلسطيني يستميت اليوم في الصراع ضد قطائع التاريخ وجراح الذاكرة. "أنا رجلٌ مليءٌ بالثقوب" يقول مخلوف، "أتيتُ الى هذا العالم/ لأملأ الفراغ بالمعنى". وهذا يعني مساءلة الغائبين وإحياء ذكرى المفقودين. وفي المقاطع الشعرية حول الغياب، يسلّط رائد وحش الضوء على "نصف وجه" لسجين تعرَّض للتعذيب ويتمّ استرداد ملامحه عن طريق مونولوغ لوالدته. أمّا عند العيلة، فإن مجرّد رفوة في بنطلون قديم تعيد إحياء وجه الأم، حيث "بقيتْ إرثاً حيّاً" لعملها اليدويّ.

26 شاعراً وشاعرة وُلدوا ما بين 1974 و1998

وفي مقابل الألم الفردي أو الجماعي، ثمَّةَ "كتلة ثقيلة وكثيفة/ كيان قائم مستقلّ.. بالغ القسوة" (أشرف فيّاض)، ثمَّةَ شهوانية الأجساد التي تكتشف بعضها أو تتلاقى. وهناك نداءات البوح بالحب التي تتمّ "بلغة الأرض / وقاموسِها" (غانم). إن الهوية الفلسطينية تعيد ابتكار نفسها في اتجاه انفتاح للمنظورات، بل قلْبها، كما في هذا التعريف الرائع لفيّاض: "أن تكون بلا وطن/ يعني بالضرورة أن تكون فلسطينيًا". فالحاجة للتحدّث مع العالم تُنعش الحوار مع فضاءات تاريخية أو أدبية أخرى. ففي لحظة من القصيدة نلتقي دانتي وبودلير، كريستوف كولومبوس وطارق بن زياد. وهذه التنقّلات، بعيدًا عن أن تكون ساخرة، تُظهر المسألة الفلسطينية تحت إضاءات جديدة. ففي إحدى قصائد طارق حمدان، يصبح سماع النشيد الوطني الفرنسي خلال مراسم تجنيس بالبلدية مجال تجريب مُلهِم: "أتخيلُ "روجيه دو ليل"/ في إحدى ضواحي القدس/ محتمياً خلف صخرةٍ/ يكتب هذه الكلمات في مواجهة الاحتلال...".

عديدة هي القصائد التي تجرفها طاقة الحركة وهوس الطريق الذي ينبغي سلوكه. إن الذوات الشعرية الفلسطينية غالبًا ما تكون على أهبة الرحيل، وتأخذ معها الشعر، كما في هذه الأبيات للشاعرة هلا الشروف: "لسنا توأمين/ ولكننا سنجدُ ما نتحدثُ عنه/ أنتَ حدبتي وأنا سِراجُك". وفي نبرة آمرة حكيمة يضيف أبو عساكر: "لا تكن الطريق، كن عينها. لا تكن مشيئتها، كن مشيتها وعصا أخطائها". والشعراء الفلسطينيون حين يتوجهون في الآن ذاته لأنفسهم ولقرائهم، يبحثون عن مَخرج في عالم يبدو أحيانًا ميؤوسًا منه، كما في السؤال البلاغي لمايا أبو الحيّات: "هل تعرفون طريقًا للضياع/ لا ينتهي بمستوطنة؟".

ثَمَّةَ في هذه الأنطولوجيا الجديدة دليل قاطع على أن مستقبل الشعر الفلسطيني بات هنا، متوطِّدًا في تجربة هؤلاء الرجال والنساء المُصرّين على مدِّ نَفَسِ كتابتهم. "ولن أفوِّتَ أوَّل الطين/ من حياتي القادمة" تتعهّد هلا الشروف. نتصوّر إذاً أن مستقبل هذا الشعر يمرّ عبر قوّة الكلمة وتنوّع العبارة الشعرية. وهذه رولا سرحان تجعل من القصيدة "رابسوديا حمقاء"، وهي في الوقت نفسه "تراتيلٌ وأناشيد وصلوات". هذا الضرب من التنوّع لن ينال في شيء من الوظيفة السياسية للشعر الفلسطيني. ولكي يقتنع المرء بذلك، يكفي اقتفاء هذا الاستدلال العنيد لمروان مخول: "لكي أكتب شعرًا/ ليس سياسيًا/ يجب/ أن أصغي إلى العصافير/ ولكي أسمع العصافير/ يجب/ أن تَخرس الطائرة". 

إن الشعر الفلسطيني الراهن، المترجم بلغة اللعبي الشفيفة والفاتنة، المحمول بواسطة جسارة موتيفاته الشعرية والإبداعية، الغنيّ بتنوّع ثيماته وحساسياته، يصقل عِبَرَ الماضي ويفتح أخاديد للمستقبل. وبما أنه مرآة قضية شعب لا يطاولها الصدأ، فإنه يعتبر نفسه فاعلًا وحصيفًا، كما في أبيات مخول هذه: "قد لا نُغيّر هذا العالم/ بما نكتب/ لكن/ قد نَخدش حياءه".


* * كاتب وناقد مغربي، أستاذ في قسم الآداب بجامعة "شيكاغو". ترجمة: محمد الخماسي، وقد نُشرت نسخته الفرنسية في المجلّة الإلكترونية En attendant Nadeau.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون