ساد اعتقادٌ عامّ في الثقافة العالميّة بأنَّ ماهيّة الحقيقة موجودة في اللغة على نحوٍ مُسبَق، أي أنَّ النصوص الناطقة باسم العقيدة الحزبية أو الدينية، ونشرات الأخبار، وعناوين الصُّحف، وخطب السياسيين، والنشرات الحزبية الرسمية ومواعظ اللاهوتيين، كلُّها تقول الحقيقة، وأنّ هذه الحقائق المختلفة المُعبَّر عنها في طبقات لغوية مختلفة تحتلّ مرتبة القداسة لدى كثيرين، وهي غير قابلة للتشكيك أو لإعمال العقل. غير أنّ الذين يقرؤون ما بين السطور يعرفون أنّ هذه "الحقائق" المزعومة قد تكون في بعض تجلّياتها نوعاً من الزّيف أو الدَّجَل، وأنّ الكذب الذي تنطوي عليه سيكون على الأرجح مدمِّراً.
انتبَه إلى مسألة فساد اللغة السياسية الروائيُّ الإنكليزي جورج أورويل في مقالته "إعادة النظر في الحرب الإسبانية"، التي يقول فيها إنّ الزيف اللغوي يؤدّي إلى كتابة التاريخ، ليس كما حدث، بل كما يُراد له أن يحدث، بحسب الخطوط الأيديولوجية المختلفة. ذكر أورويل في المقالة نفسها أنّه رأى مفكّرين متحمّسين يشِيدون بُنىً فوقيةً عاطفية على أحداث لم تحصل قط. في السياق نفسه، أشار الباحث الفلسفي كاليب تومسون في مقالة حملت عنوان "الفلسفة وفساد اللغة"، نُشرت في مجلّة "فلسفة" الصادرة عن "المؤسّسة الملكية للفلسفة" في بريطانيا، إلى أنّ اللغة السياسية تهدف إلى توجيه إدراكات الناس حول الأوضاع والأحداث بطريقة تخدم مصلحة السياسي وحزبه، واستشهد بما قاله أورويل في مقالته حول الحرب الإسبانية.
من ناحية أُخرى، تحدّث الشاعر دبليو إتش أودن عن فساد اللغة شعرياً، وكان يعني موتها فنّياً، وانحدارَها إلى الدَّرَك الأسفل - على صعيد التعبير الجمالي الفنّي - ذلك بتوظيفها من أجل الترويج الدعائي أو الأيديولوجي. علاوةً على ذلك، يُمكن أن نضيف أنّ فساد اللغة يتجلّى أيضاً في التكلّف في استخدامها، وفي الشطح الغرائبي الخالي من الدلالات، والذي يُؤدّي إلى غموض مستغلق لا يحيل إلى أيّ شيء على صعيد المعنى، كما أنّ فساد اللغة يَظهر أيضاً في تبسيطها وتكرار الصيغ المألوفة والمبتذلة، واستنساخ القاموس اللغوي السائد، وعدم التمكّن منها نحواً وصرفاً، والفشل في استخدامها بطريقة جديدة ومختلفة.
صار فسادُ اللغة أكثر تفشّياً في عصر الإعلام الاجتماعي
في حوار أجراه مايكل نيومان مع الشاعر أودن نُشر في مجلّة "باريس ريفيو" عام 1972، قال أودن: "إنَّ الواجب السياسي الوحيد للشاعر هو أن يُجسّد في كتابته نموذجاً للاستخدام الصحيح للغته الأُمّ التي يجري إفسادها على نحو متواصل". وسأل نيومان أودن في الحوار نفسه إن كان يُخيفه التدهور الحالي للّغة وغياب الدقّة الفكرية، أم أنّ هذه مرحلة انحطاط فحسب؟ فأجاب أودن بأنَّ هذا يُرعبه، وأنّه يُحاول أن يحاربه ويعتقد أنّ دَور الشاعر يتمثّل في الحفاظ على قداسة اللغة.
صار فسادُ اللغة والتفريطُ بقداستها أكثرَ تفشّياً في عصر الصحافة والإعلام الاجتماعي الرقمي الذي يتّسم بانتفاء المعايير. ثمّة كتاباتٌ لا تستحق النشر شقّت طريقها إلى الصدارة، وأُخرى لا تصلح لبريد القرّاء، صارت متناً. القاسم المشترك في النصوص الهابطة هو فساد اللغة بالمعنى الفنّي. ما الذي يعنيه هذا؟ إنه يعني تخلخل أو تهافُت المعايير وانهيارها، وانحدار اللغة الشعرية إلى مستوى النثر المبتذَل، وسنرى كثيراً ممن يكتبون باللغة نفسها يستخدمون القاموس نفسه، حتى صارت القصائد تنويعاً على قصيدة واحدة.
قدّم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر رأياً عميقاً عن سبب فساد اللغة، فالأصل أن تكون اللغة، تحديداً اللغة الشِّعريّة، كشفاً لمعنى الوجود المتلفِّع بالغموض والسرّ؛ لكن عوضاً عن أن يكون موضوعُ اللغة هو الوجود الغُفْل الذي يجب أن يتحوَّل، إبداعيّاً، إلى عالم مُضاء، أصبح موضوع اللغة هو اللغةُ نفسها، فتحوّلت بذلك إلى ألاعيب لفظيّة خاوية وثرثرة مقروءة ومسموعة.
ما كشفه هايدغر ينطبق، راهناً، على الثقافة الشِّعريّة العربيّة؛ لذلك هذا يزيد من أهمّية وضرورة حراسة قداسة اللغة، وفهم معنى تحدِّي الكتابة باللغة العربية، ذلك أنَّ لغةً كالعربية أنتجت شعراً عظيماً على مرّ العصور من الصعب أن يُنتَج فيها نصّ شعري مغاير ومهمّ إلّا عبْر هذا الوعي العميق الذي يتجلّى في طريقة استخدامها على نحو خلّاق وغير مطروق سابقاً، أي من خلال حراسة قداستها عبر معرفتها وإتقانها واستخدامها بطريقة إبداعية. إنّ غنى اللغة العربية بالنتاج الإبداعي يشكّل دعوة مغرية لأيّ شاعر حديث كي يُثقّف نفسه لغوياً ويتعلّم أسرار اللغة وقواعدها، كي يتمكّن من كتابة نصّ تتحقّق فيه الجمالية الفنّية شعرياً، أو كي يرقى إلى أن يُعيَّن في فريق الشعراء الذين يمكن أن يُطلق عليهم اسم حُرَّاس قداسة اللغة.
يتخطّى الفساد عربياً حدود اللغة الشعرية كي يطاول اللغة السياسية والفكرية، من ناحية غياب الجرأة في نقد الأوضاع السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية للواقع العربي، إلّا ما ندر، أو ما سُمح به، ما يُسهم في إفساد اللغة. إنّ كاتب المقالة السياسية لا يستطيع أن يتعّدى حدوداً معيَّنة، عليه إمّا أن يتجنّب موضوعات محدَّدة، أو يشير إليها بالتلميح أو يهرب منها، وبالتالي يُنتج لغة لا تقول شيئاً مهمّاً، أو تُكرّر أشياء قيلت سابقاً، ما يوجّه ضربة موجعة إلى اللغة في حقل السياسة.
من ناحية أُخرى، كيف يمكن أن نعرّف فساد اللغة شعريّاً؟ يمكن القول إنّ اللغة الفاسدة شعريّاً هي اللغة الهابطة، وغير السليمة نحوياً، والفقيرة تعبيرياً، أو التي لا تعكس أصالة لغوية تضرب جذورها في صلب اللغة العربية، وغير المستخدمة شعرياً بشكل غير مسبوق.
لقد شهدت قصيدة النثر استسهالاً لغوياً أرسى تشابهات في حقلها، أي إنَّ كثيراً ممّا نقرأه لا يختلف عن النثر العادي، ولا يقود اللغةَ خارج حدود التعبير المتداوَل والمكرَّر، وثمّة تبسيط في الكتابة يعكس توجُّهاً أيديولوجياً، أو ضعفاً لغوياً، ما يعني أن هناك تأصيلاً لفساد اللغة الشعرية عبر توظيفها لخدمة الأيديولوجيا واستسهال الكتابة فيها. إنّ حراسة قداسة اللغة يمكن أن تتجلّى هنا عبر فتح آفاق لغوية جديدة، أي من خلال استخدام لغة النثر شعرياً، وتنقيتها من اللغة المبتذلة.
الشاعر ابن حقيقي للغة ومنشقٌّ عن قوالبها في آن
في مقالته "السياسة واللغة الإنكليزية"، قال جورج أورويل ما فحواه أنّ اللغة بحاجة إلى تقليم وتشذيب وتحرير من الحشو والإطناب والعبارات المكرَّرة، وهذا يعني أنّه يجب تثويرها، وعدم الاستسلام لصيغها المألوفة والمبتذلة أو المُصنَّعة والمزيَّفة، وبالتالي استخدامُها بطريقة مبتكَرة كي تُصبح قادرةً على أن تُوصل المعنى. اتّهَم أورويل اللغة السياسية بأنّها صُمّمت لتحويل الأكاذيب إلى حقيقة والجريمة إلى أمر مقبول. ما يقوله أورويل قد يكون مضيئاً في حقل الكتابة الشعرية، إذا ما أخذنا بالحسبان الواقع الحالي لقصيدة النثر التي تحتاج إلى انقلابات لغوية مستمرّة، وحراسة دائمة لقداسة اللغة، وثورة على الصيغ اللغوية الموروثة والمبتذلة والمكرّرة والكلام العادي من أجل تأكيد حضورها الفنّي.
يتشابه أودن وجورج أورويل في النظرة إلى انحراف اللغة عن وظيفتها الأصلية مع هايدغر: أورويل يطرح فكرته في حقل السياسة، وأودن ينقد تحويل القصيدة إلى بوق دعائي، ما ذهب إليه الثلاثة الكبار مضيء في خطَّين: خطّ الشِّعر، وخطّ الفكر، وكلاهما يقتضي وعياً لغوياً جديداً وإتقاناً للغة الكتابة على نحوٍ يؤهِّلُ الكاتب أو الشاعر كي يكون ابناً حقيقياً للغة طالعاً من نطفتها ومنشقّاً عن قوالبها في آن.
والحقيقة أنَّ الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين ربط على نحو جوهريّ بين معاني اللغة وطريقة توظيف الألفاظ المعبِّرة عن هذه المعاني، فتوظيف اللفظة هو الذي يُحدّد معناها، ولا يوجد أيُّ معنى يمكن إيجاده خارج هذا التوظيف. يمكن أن نُسقط هذه الفكرة على اللغة الإبداعيّة بعامّة، لنكشف سرّها المدفون تحت ركام هائل من المعاني الصَنّميّة- المقدَّسة. وكان أبو حيان التوحيديّ أعمق غوراً حينما قال: "كلّما كنت بالكلام أحذق، كنت بالإنسانيّةِ أحقّ".
* شاعر ومترجم سوري مُقيم في الولايات المتّحدة