في الأيام السبعين الأخيرة من حياته، تنقّل فينسنت فان غوخ بين أمستردام وباريس وبلدة أوفير سور واز، شمال العاصمة الفرنسية، ورسم خلالها أكثر من سبعين لوحة، لكنّ حالته الجسدية والنفسية ازدادت سوءاً بسبب الإرهاق الشديد وسوء التغذية والإفراط في الكحول، حتى أطلق النار على نفسه في السابع والعشرين من تمّوز/ يوليو عام 1890، ليرحل متأثّراً بجرحه بعد يومين.
نصف هذه اللوحات يحتويها معرض "اختيار فينسنت: صورة لتاريخ العائلة" الذي افتُتح في العاشر من الشهر الجاري في المتحف الذي يحمل اسم الفنان الهولندي بأمستردام، ويتواصل حتى العاشر من نيسان/ إبريل المقبل، حيث يشمل أيضاً وثائقَ شخصية ورسوماً تخطيطية تعود إلى بداياته، إلى جانب رسائله التي تبادلها مع شقيقه وعائلته.
رسوم تخطيطية للفنان وضعها خلال طفولته وتُعرض للمرة الأولى
عنوان المعرض يعكس غايةً أساسية تتمثّل في دراسة الدور المهم الذي لعبه ثيو - شقيق الفنان - وزوجته جو بونغر وابنه المسمّى أيضاً فينسنت، من أجل نيل فان غوخ اعترافاً عالمياً بمكانته الفنّية، حيث كرّسوا حياتهم لجمع آثاره ومقتنياته وتأسيس متحف على يد ورثته يحمل اسمه، ويأتي المعرض جزءاً من الاحتفال بمرور خمسين عاماً على تأسيس المتحف.
يواجه الزوّار لوحة سلّة زهور رسمتها آنا، والدة فان غوخ، عام 1844، وهي من بين رسومات وضعتها لنباتات وزهور وطبيعة صامتة في عدد من الدفاتر، وكانت داعمة حقيقية لابنها حين لاحظت شغفه بالفن، لكنها غادرت الدنيا بعد انتحاره بنحو سبعة عشر عاماً، قبل أن يصعد اسمه وينال شهرته الواسعة.
كما تُعرض وثيقة ميلاده في الثلاثين من آذار/ مارس عام 1853 في قرية زونديرت الهولندية، وصورة فوتوغرافية وحيدة صغيرة الحجم التُقطت له في التاسعة عشرة، عشية انتقاله إلى لندن حيث افتتح معرضاً لبيع الأعمال الفنية هناك، ولم يُعثر على نسخٍ منها أو صورة أخرى لها.
وخلال البحث في أرشيف العائلة، وُجدت رسوم تخطيطية نفّذها فان غوخ في طفولته، حيث يُعرض معظمها للمرّة الأولى، ومنها واحد بحجم بطاقة بريدية صغيرة لبيت والده القسّيس في بلدة إيتين بجنوب هولندا، وتعكس إتقانه للرسم مع بساطة واضحة في الأسلوب.
تجاور اللوحات المعروضة التي تقارب المئتين، والسكتشات الخمسمئة، والمطبوعات الثلاثين، والرسائل التي تزيد عن ثمانمئة، خزانةٌ مزخرفة صنعها النجّار هندريك فريداغ، الجد الأكبر لفينسنت، في سبعينيات القرن الثامن عشر، واستخدمها ثيو لاحقاً لتخزين مئات من رسومات شقيقه.
ويشير بيان المنظّمين إلى أن كلّ ما جمعه ثيو كان خلال ستّة أشهر فقط، حيث رحل أيضاً، لتتولّى زوجته جو بونغر مهمّة تحقيق حلم ثيو المتمثّل في الاعتراف بفينسنت، ونذرت حياتها كلّها لذلك وأورثت ابنها، الذي سُمّي باسم عمّه، الرغبةَ ذاتها.
حافظ فينسنت الأصغر على مجموعة الأعمال والوثائق التي تركها عمّه سليمةً، حتى قام بتسليمها إلى "مؤسسة فينسنت فان غوخ" في عام 1962، والتي ابتنت متحفاً مخصّصاً لها سنة 1973، يضمّ البورتريهات الشخصية للفنان وأعمالاً تمثّل جميع مراحل حياته، وأهمّها تلك التي رُسمت في الأيام الأخيرة، ومنها لوحة "أزهار اللوز" التي رسمها فان غوخ كهدية لشقيقه ثيو احتفاءً بميلاد ابنه فينسنت عام 1890.
يروي المعرض قصّة "مليئة بلحظات الشك، والشدائد، والفخر، والانتصار" لعائلة فان غوخ التي ظلّت غائبة عن الأضواء لأكثر من مئة وثلاثين عاماً، ويستكشف رحلة طويلة استندت إلى إيمانها بابنها في لحظة لم يؤمن به أحدٌ سواها، بحسب بيان المنظّمين.