الرابع من حزيران للعام المئة على التوالي. فارغة من الداخل. عادة ما ينتهي بي المطاف فارغة بعد كل مرّة. الشهر الماضي كانت في داخلي فتاة، ولكنها تمكنت من الهرب بعيدًا وبسرعة قبل أن أضع يدي عليها وقبل أن أفتح معها الحوار. يظهر أن أحدهم قد حذّرها من البقاء.
عُمري الآن أكثر من مئة عام... أكثر من مئة عامٍ ولم أحظَ أبدًا بصديق أبديٍّ. أكثر من مئة عامِ ولم يستوطنني شيء مثلما فعل اليوم. أحاول جاهدة أن أُقيم علاقات لا يخذلها الزمن، ولكني محكومة بطول العُمر، في حين أن البشر محكومون بقصرهِ. محكومة أنا بالأبدية ومحكومون هم بالفناء. قبل عامٍ، كان يفكر المالك الجديد بهدم المكان كاملًا ليبني مكانه ناطحة سحاب، إلا أنّ الحكومة تدخلت في آخر لحظة لمنع الهدم ولتحوِّل المكان إلى أثر ثقافي وتاريخي يمنع هدمه أبدًا. مُجددًا، محكومة أنا بالأبدية، وكل من حولي يأتون ويذهبون وأنا أبقى...
أوه، هناك شخص جديد يسجّل على الكاونتر بأنه يريد الاستئجار في العمارة. تخبره الموظفة بأنه لا توجد أي غرفة متاحة غير الغرفة رقم 13. "ألا يبدو لكِ هذا الرقم منحوسًا؟" يقول المستأجر، فتجيبه الموظفة بأن النحس والحظ وغيرهما أمور تخيلية أكل عليها الزمان وشَرب، ولا دخل لأي رقم في مسار أي أحد، وأن هذه الغرفة قد استُؤجرت قبلًا ولم يكن بها أي مشاكل. يحكّ المُستأجر رأسه وهو يفكّر مليًا. يستسلم في نهاية المطاف ويأخذ المفتاح ويتوجه إليّ. ها أنا مُجددًا مثل عروسٍ في يوم زفافها تنتظر أن يصل عروسها. كأني أحصل على مُستأجر للمرة الأولى. الأمر يحصل في كل مرة بنفس الصُورة، أشعر بالحرارة والفرح لوصول أي مستأجر كأنه الأول. كأني لم أحظَ بأي أحدٍ من قبل. أحافظ على هذه الروح الطفولية في داخلي، لكي أحظى بالدهشة دومًا. حتى أسوأ المُستأجرين... يبقون رفقة، ومن يقول لا للرفقة لا يجب أن يصرخ ويبكي أنه يشعر بالوحدة. عندما تكون حيًّا بلا روحٍ... فلا خيار أمامك إلا القبول بما يصلك.
لا بدّ أنه قد جن جنوني. هل تتحدث الغرفة معي؟
يُدخل المفتاح في الباب ثم يحرّك المقبض للأعلى. يدفع الباب إلى الداخل. أصرخ بأعلى صوتي من خلال أزيز الباب. أُحرّك يدي مع فتح الباب. هذه أول حركة أتحركها منذ شهر. غير محظوظةٍ أنا مع المُستأجرين، كلهم يؤمنون بالحظ السيئ، ولا يبقون فيّ لأكثر من أسابيع قليلة ثم يقررون الرَّحيل مدّعين عدم شعورهم بالراحة، وبعضهم يتذرع بأنه يسمع أصواتًا غريبة. يخافون من صوتي حين أتحدث إليهم ويظنون بأن أشباحًا تعيش معهم في الغرفة، فيهرعون.
يتحرّك المُستأجر الجديد إلى الداخل، ويرمي حقائبه على الأرض ويعلّق إزاره المتسخ على العلّاقة خلف الباب. يبدو أنه قد عاد من رحلة صيد، فملابسه قذرة جدًا وحذاؤه ملطخ بالطّين. يخلع حذاءه ويلقيه جانبًا. هذا مستأجر فريد، أرى من ملامحه أنه لا يشبه أي أحدٍ مضى. يحاول أن يمزّق قميصه عنه تمزيقًا. جسده مشوّه. هناك الكثير من العلامات الغريبة على ظهرهِ وكتفه وصدره. لم أرَ هذه العلامات قبلًا وأنا التي عايشتُ طوال حياتي أكثر من مئتي مستأجرٍ. يصيبه الفتور من التمزيق، فيرتخي على أحد الكراسي وهو مُتعب منهك. يظهر الآن نصف جسده ونصفه الآخر مغطى بقميص ممزّق.
ينام دون أن يتحرك على الكُرسي. سكونه يجعل من وجوده وعدمهِ سيّان، كأنه صار قطعة أثاثٍ في الغرفة. أريد استكشافه أكثر، ولكنه أطال في نومهِ. عليّ أن أفعل شيئًا لأجعله يصحو، لكن كيف أفعلها دون أن أثير الشكوك؟ لا أريده أن يرحل بسرعة. لا أريده أن يتركني وحدي. أُحرّك النافذة ببطء في محاولة لفتحها. سنون الزمان الثقال جعلت من المستحيل على النافذة أن تفتح دون صرير... المفاصل صدئة ومُستهلكة. صوت صرير ضعيف. يتحرّك الآن المُستأجر، فأتوقف عن الحركة. أزحزح النافذة للخارج شيئًا فشيئًا حتى صارت مفتوحة على مصراعيها. الآن أتركها للريح، حتى يغلقها بقوة فيصحو. مرّ بعض الوقت قبل أن تمر هبّة ريح قوية، لكنها أتت. تُغلق النافذة وتصطدم بالمصراع. يقفز المُستأجر هلعًا: "من هناك؟ ماذا؟ ما الذي يحصل هنا؟ احذر، فأنا مسلح!". أضحك قليلًا، ويخرج صوت ضحكتي مع صوتِ هبوب الريح بين فتحات النافذة المفتوحة. لحسن حظّي لم يلحظ أي شيء غريب.
ينظر ناحية الحائط، فيرى النافذة مفتوحة، فيسرع لإغلاقها. ينظر إلى نفسهِ، فيجد ملابسه نصف ممزقة، فيكمل تمزيقها، ثم يُخرج من إحدى حقائبه بعض الملابس النظيفة. يتجه نحو الحمّام ليغسل نفسه. يدخل عاريًا من كل شيء إلا ملابسه الداخلية. تنساب المياه على وشومهِ فيظهر لونها قاتمًا أكثر وتصبح مرئية بشكلٍ أوضح. يخرج من الحمّام مرتديًا منشفة كانت معلقة على باب الحمام، لا أدري إذا ما كان قد أخرجها من حقيبته أم أنها كانت على الباب منذ البداية. السوس ينخر في عقلي وفي كل أنحائي، حتى ذاكرتي صارت صدئة. لم أعد أذكر ما كان فيّ. يجلسُ عند قاعدة السرير ويرفع رأسه نحو الأعلى ويقول: "حسنًا أيتها الغرفة، ما الذي تخبئينه لي؟"، يا للهول، هل يتحدث معي أم يسأل أسئلة مجازية؟ "أعلم بأنك هناك وأنك تراقبينني عن كثب"، هل فقد عقله؟ لماذا قد يتحدث إنسان إلى غرفة؟ كيف علم بوجودي؟ كيف علم بأني أعي؟ ثم انطلق ضاحكًا مقهقهًا وهو ينظر إلى نفسه في المرآة. "يا لي من أحمق؟ صرت أتحدث إلى الغرفة الآن؟ عليّ أن أسرع بالخروج من هنا قبل أن أفقد عقلي".
عندما قال جُملته الأخيرة، ارتعدت كل فرائصي. لم أتعرف عليه بعد ليرحل. لبس ملابسه، وهمّ بالخروجِ من الغرفة. حاول أن يفتح الباب، لكنّي أوصدته. يستهجن المُستأجر الجديد. يحاول تذكر إذا ما تبعه أحد ما من خدمات الفندق البارحة ليغلق الباب خلفه. لكنه لا يتذكر أي أحد. يدخل المفتاح في الباب. يحاول مُجددًا. الباب لا يفتح. كان خوفه المُستهجن ظاهرًا على وجهه، حيث صارت ملامحه ملامح عجوز تسعيني. كانت التجعدات على جبينه ظاهرة للعيان. الآن أتحدث معه.
"بداية، أنت لم تفقد عقلك" قلتُ. عندما سمع هذه الكلمات، تحوّل لونه إلى اللون الأبيض. امتقعت الدماء في وجهه. صار يدور حول نفسه باحثًا عن مصدر الصوت. "من هناك؟ أهذه الكاميرا الخفية؟" قال وهو يتحدث، ولا يدري إلى أين يوجه حديثه.
"لقد تحدثت معي قبل قليل، هل فقدت ذاكراتك في ظرف دقائق؟".
نعم، أنا مسافر جوّال، وأريد الانتقال إلى محطتي القادمة
"لا بدّ أنه قد جن جنوني. هل تتحدث الغرفة معي؟ يبدو أني لم أنم منذ فترة طويلة. لا، لقد نمت قبل دقائق".
"مُجدّدًا، لم تفقد عقلك. أنا أتحدث معك. ابتعد عن الباب، واجلس على السرير. لدينا حديث طويل لنخوض فيه".
"أريد الخروج فحسب. أرجوكم. أعد بأني لن أصيد في هذه الغابة من جديد".
لقد كنتُ على صواب. كان يصطاد في الغابة المجاورة. عليّ أن أستغل هذا الموضوع.
"ماذا كنت تصيد؟".
"الأرانب والغزلان".
"للمتعة أم للأكل؟".
"للأكل. أرجوكم أخرجوني من هنا. خدمات الغرف".
"لا أحد يستطيع سماعك. عندما بُني هذا المكان، بُني بغرفٍ عازلة للصوت".
"من أنت؟ من الذي يتحدث معي؟".
"لا يهم".
"...."
"ألا تعلم بأن الصيد ممنوع في هذه الغابة؟".
"أعلم، وأعد بأني لن أفعلها من جديد".
"فات الأوان. أنت الآن معي. تحدّث إليّ".
ارتمى على الأرض مغشيًا عليه. بقي على حالته هذه لأكثر من ساعة. بعدها، استيقظ.
"يا إلهي، ما هذا؟ يا له من كابوس مُزعج".
هل يعقل؟ أنا كابوس مزعج؟ وقف واتجه إلى الحمام من جديد ليغسل وجهه، ثم عاد ليحاول فتح الباب من جديد. وجده موصدًا. بدأت ملامح الخوف ترتسم على وجهه من جديد. لا بد أنه أدرك أن ما حصل لم يكن كابوسًا. توقف عن محاولة فتح الباب، واتجه إلى الهاتف. رفع السماعة، وطلب رقم خدمة الغرف. الهاتف لا يعمل. بدا مُتشككًا. نظر إلى من حوله وخاطبني.
"هل من أحدٍ هنا؟" قالها مترددًا.
"أنا هُنا".
تراجع إلى الخلف مُرتعدًا.
"من أنت؟".
"أنا الغرفة".
"أرجوكم توقفوا عن العبث، لو كان هذا مقلبًا، فأرجوكم توقفوا".
بدأت بالأنين، صار ينظر إلى فتحات الغرفة باحثًا عن مصدر الصوت.
"ما هذا الصوت؟".
"صوتي. لماذا لا تتحدّث معي؟".
"من أنت؟" قالها مرة أخرى.
"أنا الغرفة".
"لا بد بأني أحلم من جديد". وبدأ في قرص نفسه.
"لستَ في حلم".
"ما الذي تريدينه مني؟" قال وهو يُبدي أول علامات التسليم.
"أريد الحديث معك".
"حول ماذا؟".
"أي شيء".
"أي شيء؟ مثل ماذا؟".
"كم عمرك؟".
"ستة وعشرون عامًا. أرجوكم من أنتم؟".
أوه، وجبة لذيذة في مقتبل العُمر.
"لستُ أنتم. أنا الغرفة".
"حسنًا"، صار الآن مُسلّمًا بوجودي.
"هل تعدني بأنك لن تتركني؟".
"ماذا؟ لكني أريد الخروج، لا يمكنني البقاء هنا. لقد دفعت لقاء ليلة واحدة. عليّ الخروج قبل أن تطردني إدارة الفندق".
"لا تقلق، لن يطردك أحد. لقد سجلت خروجك من الفندق. أنت الآن خارج حسابات الفندق، وداخلي".
"...".
"لأسمح لك بالخروج، عليك أن تعدني بأنك لن تخرج؟".
"لماذا؟ ما الذي تريدينه مني؟".
"لا أريد أن أبقى وحيدة".
"وتظنين بأني رفقة؟ أنا رفيق سيئ. الوحدة أفضل مني".
"دع هذا الأمر لي لأحدّده. الرفقة السيئة خير من لا شيء".
يتّجه إلى الباب من جديد، ويحرّك المقبض بسرعة.
"الباب موصد، تحدث إليّ. أخبرني أي شيء".
"لا يمكنك حبسي إلى الأبد. سأموت".
من جديد، يذكرني الأحمق بلعنتي.
"لن تموت. جرّبني".
ملامحه صارت فارغة.
"كم مضى على مغادرتك لبيتك؟".
"لا بيت لي. أنا أدور بين الأماكن وأتجوّل في الغابات والطبيعة وأبيت في الفنادق".
وجبتي المفضلة. مقطوع من شجرة. لن يبحث عنه أحد. سيظنون بأنه في رحلته.
"ولماذا لا بيت لك؟".
اصمت بقدر ما شئت، كلكم تتحدّثون في النهاية
"كنتُ أعيش في منطقة محاصرة والخروج منها صعب، وقضيتُ فيها أغلب حياتي، وقطعت عهدًا على نفسي، بأني حين أخرج منها، ستكون كل الأرض بيتي، ولن أبقى في مكان واحد".
"مُسافر جوّال".
"نعم، أنا مسافر جوّال، وأريد الانتقال إلى محطتي القادمة. قضيتُ الوقت الكافي في هذه المنطقة".
"أخبرتكَ، عدني بأنك لن تتركني وحدي، وسأسمح لك بالخروج".
"وهل ستصدّقين ما سأقوله لك؟ كيف ستعرفين بأني لا أكذب؟".
"صدّقني. عايشتُ في هذا المكان مئات المستأجرين ودرست ملامحهم. وأعرف متى يصدقون ومتى يكذبون".
"وهل صدق أي منهم؟".
"هل ترى أيًّا منهم هنا؟ لو صدق أي منهم، لما احتجت إليك".
"..."
"يميل جنسكم إلى الكذب كثيرًا. من صدق كلمته فقط هو البوم المقيم في الكوّة خارج الغرفة".
"لن أتحدّث معك، إلّا إذا سمحتِ لي بالخروج".
"لا يهم، طالما أنت هنا، فأنا بخير. رفضك للحديث معي، حديث".
"..."
"يمكنك البقاء صامتًا بقدر ما تريد. أنت الآن في جوفي".
"..."
"ما اسمك؟".
"..."
"اصمت بقدر ما شئت، كلكم تتحدثون في النهاية. خوفكم من الوحدة أشد من خوفي".
"كم مضى على مكوثي هنا؟".
"ليلة ويوم، وستبدأ الليلة الثانية عند غروب الشمس بعد قليل".
اتجهت أنظاره إلى النافذة. يظن نفسه ذكيًا، سيحاول الاتجاه إلى النافذة ليصرخ منها طالبًا النجدة. قفز مسرعًا، وحاول فتحها، لكني أوصدتها. بدأ بالصراخ بأعلى صوته.
"لا تحاول. لا أحد يسمعك".
ردّات الفعل ذاتها في كل مرة. كلهم يفكرون بنفس الطريقة. يترك الآن النافذة، ويتجه إلى حقيبته. يُخرج منها هاتفه المحمول. يحاول الاتصال. لكن لا شبكة!
"أخبرتك بأن هذه الغرفة عازلة للصوت، وما يعزل الصوت، يعزل إرسال شبكات المحمول".
"تعرفين عن التكنولوجيا كثيرًا بالنسبة لشقة تدعي طول العمر".
"لستَ أول المُستأجرين. حاول أن تكون آخرهم".
"ماذا تقصدين؟".
"إذا وافقت على البقاء معي، فسآخذك في رحلة عبر الأزمان، ولكن في هذه الشقة. سأريك كيف كنت في البداية، وسأجعلك تتحدث إلى من مكث هنا قبلك. سأعطيك تجربة لن تعثر عليها في أي مكان آخر. أنت جوّال في المكان، ما رأيك أن تكون جوّالًا في الزمان؟".
"جوّالًا في الزمان. سأكون الأول".
"نعم، ستكون أول جوالٍ عبر الأزمان".
يبدأ بالتفكير فيما قاله. يبدو محتارًا قليلًا. لقد فكّر فيما قلته له.
"ولكن لن يعرف عني أحد!".
"أخبرتك، عدني وعدًا صادقًا بأنك ستعود، وسأدعك تخرج من هنا".
"هل خرج أحدٌ قبلًا؟".
"..."
"لماذا لا تردّين؟".
"لا، لم يخرج أحد".
"وما الذي يجعلك تصدقين بأني لن أكون مثلهم".
"أنت سيد قرارك".
"ولكني قد أكذب".
"أنا شقة تتكلّم، ألا تعتقد بأن لدي قدرات تكشف الصدق من الكذب؟".
يُفكّر مليًا.
"حسنًا، أعدكِ بأنّي سأعود".
"..."
"أعدكِ صدقًا بأني سأعود".
"حسنًا. حلّ الليل الآن. امكث معي الليلة. نم هنا. سننام معًا، وغدًا صباحًا، سأدعك تخرج".
"تنامين؟".
"مثلي مثل كلّ الأحياء. أغفو وأصحو. النوم هو جنتي ومهربي الوحيد من الوحدة. حين أنام، أنسى جوفي الفارغ".
"حسنًا".
يتّجه إلى السرير ويرتمي عليه. يغطّي نفسه بالشرشف القرمزيّ. يُغمض عينيه. يتحدّث إلى نفسه.
"هذا ليس إلا كابوسًا طويلًا".
"لن يساعدك هذا النوع من الحديث. لستَ في كابوس. نم الآن، وسأحدد صدقك عند صحوك غدًا".
"حسنًا".
يتوقّف عن الحديث إلى نفسه وإلي. يتقلب في مكانه، ثم يبدأ بالإغفاء. سأنام أنا أيضًا.
بعد عدة ساعات، يبدأ بالحركة. أشعر بهِ في جوفي. يتقلب. يبدو أنه لم ينم. ينسل من فراشهِ ويتحرك ببطء باتجاه حقيبتهِ. الأحمق، يظنُ بأنه يمكنه خداعي. يُخرج من حقيبته بلطة، ويتجه نحو الباب. يرفع البلطة عاليًا.
"توقّف! تظن أنك أذكى من غيرك ومني؟".
أجفله صراخي عليه، فأسقط البلطة على الأرض. يُسرع في حملها من جديد. يرفعها عاليًا مرة أخرى، ويضربها بالباب.
"توقّف، أنت تؤلمني. أرجوك. توقّف".
يضرب الباب من جديد.
"سأخرج من هنا بأي ثمن".
"قلت لك توقف قبل فوات الأوان".
لكنه لا يتوقف. يواصل ضربي.
"توقف قبل فوات الأوان. أرجوك. كن صديقي. أرجوك".
لكنه لا يتوقف، يضرب الباب بلا هوادة. صار هناك شق صغير بالباب. يحاول ضربه من جديد.
"هذا هو تحذيري الأخير. توقّف".
"ما الذي ستفعلينه معي؟ لستِ سوى جماد".
لم يعد بوسعي التحمل أكثر. تركت كلمته الأخيرة فيّ شقًا أسوأ من شق البلطة. ليته كان صادقًا معي. ليته لم يفعل ما فعل. عليّ أن أبتلعه الآن. أبتلعه مثلما فعلتُ مع من قبله. ميتٌ في جوفي، خير من اللاشيء. اللاشيء مؤلم. المغفّل. كان بإمكانه أن يختار الأبدية، إلا أنه مثله مثل من قبله، اختار الفناء. جائعة أنا إلى الفناء. اختفى الآن. عليّ أن أبتلع باقي أغراضه. أن أصلح الباب. أن أستعد للمُستأجر الجديد.
* كاتب من فلسطين