مع توقّف الحياة الثقافية في تونس بسبب موجات الوباء المتتالية، لعلّنا نتوقّف - مع تباطؤ المشهد - على أشكال مختلفة لتداول الثقافة لا نتوقّف عندها عادة، مثل مبادرات مثقّفين بتسليم محتويات مكتباتهم إلى مؤسّسات ثقافية عمومية كي يستفيد منها الباحثون، فلا تذهب هدراً كترِكةٍ مثل كلّ الترِكات. ما يُلاحظ في تونس خلال السنوات الأخيرة تنوّعُ هذه المبادرات، حيث لا يقتصر الأمر على مثقّفين راحلين. من ذلك أن الروائيّ التونسي عبد الواحد براهم (1933)، أهدى الكتب التي يملكها إلى "المكتبة العمومية" لمدينة بنزرت، منذ بضعة أسابيع، في حركة نادرة من مثّقف لا يزال على قيد الحياة.
تختلف هذه المبادرات أيضاً على سلّم العناية الإعلامية، فبضعها يجري الاحتفاء به، فيما تظلّ أخرى خارج دائرة الضوء. يمكن أن نذكر موجة الترحيب بإعلان "المجمع التونسي للآداب والفنون والعلوم - بيت الحكمة" استلام مكتبة المؤرّخ التونسي الراحل مؤخّراً هشام جعيّط (1935 - 2021)، بحسب وصيّته، وهو حدث ثقافيّ وازن، فما المؤلفات الأساسية التي وضعها جعيّط في الفكر والتاريخ الإسلامي إلّا ثمرة لمكتبته.
مقابل تسليط الضوء على انتقال مكتبة جعيّط إلى "بيت الحكمة"، لم يجرِ التوقّف عند خبر إهداء الكاتب والباحث المسرحي اللبناني الفرنسي روبير أبي راشد (1930 - 2021)، مكتبته إلى "المعهد العالي للفنّ المسرحيّ بتونس"، بناءً على وصيّته، وهو الذي رحل في الخامس عشر من الشهر الجاري، ما دفع المؤرّخ المسرحي محمد المديوني إلى التأكيد ــ في تدوينة فيسبوكية ــ على رمزية مبادرة أبي راشد. كتب المديوني: "ما الذي دعَا روبير أبي راشد، النّاقد المنظِّر، أن يُهدِي مكتبته الضخمة بكلّ ما فيها وبكلّ ما يُمكن أن تعنيه إلى 'المعهد العالي للفنّ المسرحيّ بتونس'؟ ما الذي دعاه إلى أن يفعل ذلك وكان بِإمكانه أن يهديها إلى إحدى الجامِعات التي فيها درّس وهي كثيرةٌ وهامّة، وآخِرُها 'جامعة نانتير' الباريسية؟".
ينبغي أن نضخّ حياتنا الثقافية اليوم بحسّ امتنانٍ مشترك
يؤكّد المديوني على العلاقة المتينة التي ربطت بين أبي راشد وكثير من الباحثين التونسيين في المسرح، ولكنّ هذه الروابط قد لا تفسّر وحدها مبادرته، فهناك ما هو أعمق في مبادرة أبي راشد حين يهب "مكتبته الخاصة التي هي أهمّ ما يُمكن أن يتركه أستاذٌ وباحث ومنظّر"، بحسب عبارات المديوني، الذي يضيف: "إنّ من بين أهمّ ما يُمكن أن يُكرّمَ به روبير أبي راشد بيننا، في تقديري، وقد سافر سفره الأخير، هو الاعتراف بنُبلِه المتجلّي في الوفاء للصداقة والأصدقاء وفي تقديره لتونس". ولا يبدو صمت الساحة الثقافية التونسية شكلاً من أشكال الاعتراف الذي دعا إليه المديوني...
لا ينبغي أن تمرّ هذه المبادرات بشكل عابر؛ ينبغي أن تُشحن بالمعنى، فجعل عموم القرّاء ورثةً للمكتبة الشخصية لهذا الكاتب أو ذاك هو أرسخُ أشكال التواصل الثقافي لو كنّا نُدرك. يشير تواتر المبادرات الأخيرة إلى أن تقليداً قد أُرسي في تونس بين المثقفين لتسليم تركاتهم من الكتب لمؤسسات عامة، لكنّنا لا نجد تقليداً موازياً في الاحتفاء بذلك وإعطائه حقّ قدره.
في 2017، مرّ حدث تسليم مكتبة الناشر التونسي الحبيب اللمسي (1930 - 2017)، إلى مؤسسة "دار الكتب الوطنية"، بناء على وصيّته، دون كثير تعقيب. كأنما يندرج ذلك ضمن العادي من شؤون الحياة، في حين أن الأمر يتعلّق بمكتبة تُقدَّر بحوالى 50 ألف كتاب تتضمّن النادر من الكتب والمخطوطات. بل إن مكتبة اللمسي لم تكن مكتبة رجل كان يجمع الكتب فحسب، بل هي أيضاً مكتبة رجل كان يجمع المكتبات، فمثلاً كان تحويل مكتبته إلى مؤسّسة عامة فرصةً لاكتشاف مكتبة المؤرّخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب (1884 - 1968)، بعد نصف قرن من رحيله، والتي أسرع اللمسي إلى شرائها كاملةً حين علم بنيّة الورثة التفريط بها.
ألّا تجد هذه المبادرات التثمين الضروري قد يكون سبباً في نفور عدد من المثقفين من الإقدام على مثل هذه الخطوة الحميدة. هناك حسٌّ امتنانيّ مشترك ينبغي أن نضخّ به حياتنا الثقافية، وهو أحد شروط الترابط العضوي بين الأجيال التي تتعايش ضمن ثقافة واحدة. ما يغذّي الفكر والأدب ليس دائماً هو ما يظهر تحت الأضواء وضمن تدّفق الراهن واليومي، بل هو أيضاً مثل هذه الوشائج الخفيّة بين الأجيال: أن تفتح كتاباً فتعرف أن كاتباً مرموقاً كان سبباً لوصوله بين يديك. إنها منظومة كاملة ينبغي أن تشتغل على أكمل وجه، بما يقتضيه ذلك من عناية دؤوبة وصبورة، كي نتحدّث عن تراكمٍ مخصبٍ... وإلّا فما ثقافتنا إلا سلسلة من العابرين.