كنتُ ألتقي عناية جابر كلّ صباح. لكنَّ هذا الكلام هو عن تزاملنا في جريدة "السفير". أعرف عناية بالتأكيد قبل ذلك، وهي من ذلك الحين حيّرتني. كانت في أول بدوها بالشعر والتقينا شاعراً محترفاً وشاعرة ناشئة. كانت عناية يومها من دون سابقة في الشعر، وأكبر سنّاً من أن تكون مبتدئة. لم أنتظر الكثير منها، حسبتُ أنَّ القصّة ستقف هنا، وستعيد هكذا قَصصاً مشابهاً. لا نعجب من أن يهمّ واحد بالشعر، بل نعجب إذا لم يفعل. كثيرون يطمحون للكتابة وأغلبهم يبدأون بالشعر. تحت جلد كلّ من هؤلاء شاعر حقيقي أو مزعوم، وفي الغالب لا يصبر طويلاً على محاولته. من بدايات عناية لم أجد أنَّ الأمر سيكون مختلفاً هذه المرّة. كانت بدايةً ككلّ البدايات، حسبتُ أنَّ النهاية ستكون أيضاً ككلّ النهايات، لكنّ الأمر لم يكن كذلك. أشعار عناية المبتدئة لم تلبث، وبسرعة، أن وجدَت أسلوباً. غدا لعناية، في وقت قصير، أسلوب، غدت لها قصيدة.
كان في هذا ما يدل على أنها خرجت، بسرعة، من ابتدائها، بل إنها حتى، في تلك الآونة، كانت تختزن ما يتجاوز هذا الابتداء. كانت بالتأكيد تبني على ما هو أعمق، وأكثر كثافة، وأكثر انتظاماً. لم يطل تخبُّطها في هذا الخزين، ولم يطل تشتُّتها في ركامه. سرعان ما خرجت من هذا الركام، وسرعان ما سوّته وشففته وأوجدت له إيقاعات وغناءً خاصاً. سرعان ما وجدت جملة لها وموسيقى وصوتاً وبناءً. لقد كانت هذه مفاجأتها التي لم تصدمني، إذ كانت صريحة ووازنة، مثلها مثل محيا عناية ومثل رفقتها التي صارت شبه يومية، منذ تزاملنا أنا وإياها في جريدة "السفير" وفي قسمها الثقافي. لقد صرنا معاً شاعرين وزميلين.
لربما كانت هذه الزمالة ظالمة أحياناً، إذ إنّها، أحياناً كثيرة، تغدو مكتفية بذاتها، أو تبدو كافية ونهائية، فلا تتطلّب أيّ زيادة وأيّ إضافة. كأنَّ الزمالة، التي يصعب تعريفها دائماً، تختصر الأشياء جميعها، فهي قد تكون صداقة أو لا تكون، وهي قد تكون اعترافاً بالآخر أو لا تكون. هكذا تكاد الزمالة تبتلع كلّ ما يشبهها أو يمتّ إليها، من دون أن تعنيه بالضرورة. إنّها تُغني عنه لكنّها لا تستوعبه دائماً ولا تقوله، وإن بدا أنّها تضمره ولا تحتاج إلى أن تصرّح بذلك أو تعلنه. هكذا لا ننتبه إلى أنّ الوقت يمضي، ونحن في هذه المراوحة. لا ننتبه إلى أنَّ ما لم نفهم أنّه فاتنا قد فاتنا حقّاً، أو نحن فوّتناه، وتركناه يتأخّر وينزوي من دون أن نشعر بما في ذلك من خسارة، وبما فيه من تلكؤ، وربما من ظلم قد يكون أحياناً يشبه الغدر أو يشبه في أفضل الأحوال الإهمال.
غدا لعناية في وقت قصير أسلوب، غدت لها قصيدة
هكذا يتناهى لي نعي عناية التي منذ غادرتنا، ولم يلبث أن غادرنا جميعاً، مكان الملتقى والزمالة. لقد استمرّت الزمالة، على نحو ما، نحو خاسر وبليد. استمرّت بعدما انتهت الرفقة وانتهت الصحبة، وافترقنا كلّ إلى طريق وإلى محل وإلى بيئة. مضت السنوات وافترقنا تماماً، إذ لم أعرف إلّا القليل القليل عن عناية في هذا الوقت، وأحسب أنّ هذا كان شأنها أيضاً.
غطّت الزمالة، في طورها الجديد على ذلك كله، إذ إنّها كانت، في حقيقة الأمر، انقطاعاً وكسلاً. كانت نوعاً من حساب نهائي مع شيء لم نحسب له في الواقع حساباً. كنتُ في السابق أقرأ أشعار عناية ديواناً بعد ديوان، لكن خلال سنوات الانفصال لم أعرف شيئاً عن مجموعاتها الشعرية، ولا أعرف إذا اعتنت هي بمجموعاتي. كأنّنا كنّا اكتفينا، بعضنا من بعض، كما لو أنّنا اكتفينا من ماضٍ ودّعناه ولم نعد نلتفت إليه.
هكذا يأتيني نعي عناية صادماً، إذ يضعني أمام هذا الفراغ الذي هو عمر افتراق. انتبهت إلى أنّ ما فعلته كان طيّ صفحة، لم تطوَ فعلاً. أنتبه وأنا أفكّر في عناية الشاعرة، إلى أنّني لم أقل كلمة في شعرها. كم كانت الزمالة لذلك نوعاً من الاغتراب، كم كانت اسماً غامضاً لتفويت الأشياء. نعم، لم أقل كلمة في شعر عناية الذي طالما رأيته يرصد للشعر لحظات من الحياة. يفردها ويتعامل معها كمفارقة وكإيقاع وكلمح مزدوج. كلحظة تجعل من القصيدة أثر قصة اختفت في الزمن، أو تحوّلت إلى زمان. لم أقل شيئاً في شعر كان يبدو أنّه، في بوارقه الخاطفة، يبني واقعاً خاصاً، يبني غناءً يحيد عن الواقع لكنّه يبقى إزاءه ومقابِله.
يحتاج شعر عناية إلى كلام آخر، لكنّ الزمالة الظالمة تطغى أيضاً على الفراق الأخير، الذي لا قِبَل له بهذا الزمن المحطم الذي هو زماننا اليوم.
* شاعر وروائي من لبنان