عمر أزراج.. ترجمة الشِّعر لترويض العزلة

18 ابريل 2023
عمر أزراج
+ الخط -

في "ممرّات للفكرة"، الكتابِ الصادر قبل أيّام عن "منشورات خيال"، يُواصِل الشاعر الجزائري المُقيم في لندن، عمر أزراج (1949)، اقتراحَ نصوص شعرية من لغات وحساسيات مختلفة على القارئ العربي؛ تجربةٌ هي الثانية بعد كتابه "مفاتيح اللانهائي" (دار الأمل)، الذي صدر في 2007، وضمَّ تسعاً وأربعين قصيدةً مترجَمة.

كما في المختارات الأُولى، يجمع أزراج في كتابه هذا عدداً مِن الأسماء الشعرية القادمة من أزمنة وجغرافيات متنوّعة، ينقلها مِن الإنكليزية التي هي لغةٌ أصلٌ كما في قصائد الشعراء البريطانيّين والأميركيّين، ولغةٌ ثانية في قصائد شعراء من بلدان أُخرى.

مساحةٌ تمتدُّ في الزمن والمكان واللغة، إذ تبدأ مِن الفيلسوف الصيني لاو تسو الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وتصلُ إلى أسماءَ مُعاصِرةٍ بعضُها غادر عالَمنا قبل سنوات قليلة وبعضُها الآخر موجودٌ بيننا. لدينا، هنا، نصوصٌ للبرتغالي فيرناندو بسوا (188 - 1935)، والشعراء الإنكليز جون ميلتون (1608 - 1674) وإديث ستويل (1887 - 1964) وفيليب لاركن (1922 - 1985) وتيد هيوز (1930 - 1998)، والأميركيّين عزرا باوند (1885 - 1972) وويستن هيو أودن (1907 - 1973) وآن ستيفنسون (1933) ولويز غلوك (1943)، والفنلنديّين تومي تابرمان (1947 - 2010) وآرتر ميلار (1956) وإيفا كيلبي (1928)، والنمساوي جورج تراكل (1887 - 1914)، والأيرلندي وليم بتلر ييتس (1865 - 1939)، والهولندية ماريا بارناس (1973)، والإيراني إيراج جنتي عطائي (1947)، والباكستاني فيض أحمد فيض (1911 - 1984)، والمكسيكي أُكتافيو باز (1998 - 1914)، والجنوب أفريقيان مافيكا غوالا (1946 - 2014) ومونغن والي سيروت (1944).

مُضاعَفة حياة الناس بالعوالِم التي يكتشفها الشعراء

في مقدّمته الموجَزة للكتاب، يَعتبر صاحبُ مجموعة "وحرسني الظلّ" (1975) أنّ ترجمة الشعر "هي أقلُّ ما يمكن للمرء القيام به لكَي يتغلُّب على أُحاديته المغلقة، ويفتح بوّابات ذاته، لتسهيل دخول الغرباء الضيوف إلى حياته/ ثقافته"، وأنّ مهمَّة المُترجم، وبخاصّة مُترجم الشعر، هي مُضاعَفة حياة الناس بواسطة تزويدهم بالعوالِم التي يكتشفها الشعراء أو يخترعونها، مُضيفاً أنّ الترجمة عنده "تبدأ بالاستئناس بالقصيدة، ثمَّ مُعايشتها بهدوء وخطوةً بخطوة، ثُمّ تأمُّل تضاريس بنيتها العميقة والمعاني التي تظهر هنا وتلك التي تنتشر على عتباتها وتكون غالباً مختفية. بعد إقامة الصداقة مع هذه القصائد، أقوم بتخيُّل شاعرها وتحوُّلات حياته وعصره ومن عاشوا فيه من أجل استعادة شيء مفقود وغامض".

مُتحدّثاً عن هذه التجربة، يقول عمر أزراج، في حديث إلى "العربي الجديد": "ربّما يَطرح أحدٌ ما عليَّ هذا السؤال: لماذا تُترجِم الشِّعر وأنت في خريف العمر؟ الإجابة التي أقترحها هي أنّني لا أُترجِم بدافع خارجي فحسب؛ أي وفقَ واجب التعريف بالتجارب الروحية التي يكتنزها الشعر الذي أقرأه وأقيم صداقةً معه، وإنّما لكي أُروّض العزلة التي تُحيط بي أحياناً كثيرة. كما أُترجم لمضاعَفة حياتي عن طريق الحوار مع جغرافيات روحية أُخرى". يُردف: "أشعر، كلّما ترجمتُ قصيدةً لشاعر ينتمي إلى لغة وثقافة مختلفتَين، أنّني أُلقّح شجرتي المعرفية بحساسية حضارة أُخرى. ومن هنا، فإنّ الآخر هو هذه الأنا التي تتفاعل مع غيرها".

غادر أزراج الجزائرَ منتصف الثمانينيات، بعد أنْ تعرَّض لمضايقات ووجَد نفسه مُتَّهَماً بـ"تهديد الأمن العام وخيانة الثورة التحريرية"، بسبب قصيدة ألقاها في ملتقىً شعري بمدينة بِسْكرة (الجنوب الشرقي) عام 1984، انتقد فيها "حزب جبهة التحرير الوطني" الحاكِم في البلاد، والذي خاطبه في مطلعها قائلاً: "أيّها الحزب الأوحَدْ/ تعدَّد/ أو تجدَّد/ أو تبدَّد".

ممرات للفكرة

في عام 1986، وصَل صاحب مجموعة "الجميلة تقتل الوحش" (1978) إلى بريطانيا التي سيطول استقراره فيها لأكثر من سبعة وثلاثين عاماً. "مُنذ تلك اللحظة، وأنا أتلمَّسُ طريقي في هذه الجزيرة نحو إدراك ما يُشكّل جزءاً مهمّاً من بانوراما الإنسانية في الشعر والفكر والثقافات الروحية"، مثلما يقول في حديثه إلى "العربي الجديد"، قبل أن يُضيف: "كانت المشكلة التي واجهتني منذ البداية هي اللغة الإنكليزية؛ حيث إنّ تعلُّمها في الكبر بدا لي أشبه بزواج المرء قبل أسبوع من مراسم رحيله".

مُتغلِّباً على مخاوفه تلك، انخرَط الشاعرُ الجزائري في تعلُّم الإنكليزية واستكشاف حمولاتها الثقافية والنفسية، ثُمّ سريعاً جاء الشعر: "لقد تبيَّن لي أنّ ثمّةَ ضرورة لإقامة صداقة مع التجارب الشعرية الإنكليزية، وانتبهتُ إلى أنّ أفضل طريقة لذلك هي قراءةُ تفاصيلها والإنصاتُ إلى عوالم القصائد المضمَرة والمعلَنة".

يُضيف: "أذكر أنّني، في الأسبوع الأول من وصولي إلى بريطانيا للإقامة والعمل والدراسة فيها، شرعتُ في شراء الأعمال الشعرية لشعراء بريطانيا، وبدأت بالشاعر بن جونسون (1572 - 1673)، مروراً بالشعراء الرمزيّين، ثمّ شعراء 'عصر القلق'، وانتهاءً بشعراء الحاضر".

غادر أزراج الجزائرَ منتصف الثمانينيات بسبب قصيدة

يقول صاحب مجموعة "العودة إلى تيزي راشد" (1984): "حين يكون الإنسان في بلد أجنبي متعدّد الثقافات ومتعرّج التاريخ مثل بريطانيا، فإنّ بوّابة الدخول إلى أسراره هي تأمُّل هذا المركب الثقافي الذي أسهمت في إنتاجه عبر الزمان، ويحتلُّ الشعر موقعاً أساسياً فيه. على أنّ علاقتي لم تبق محصورةً في الشعر البريطاني؛ فقد جرّتني التجربة والفضول إلى تتبُّع مفاصل التجارب الشعرية في الفضاءات التي امتدّت إليها تأثيرات الإمبراطورية البريطانية في أستراليا وأميركا وكندا وآسيا وأفريقيا الأنكلوفونية ومنطقة البحر الكاريبي. وبهذا صارت جزيرةُ بريطانيا مرآةً كبيرة أرى فيها التنوّعات الثقافية والفكرية والشعرية التي تتحرّك أمامي. على هذا الأساس، فتحتُ عينيَّ على كثير من الشعر الذي يُصنَّف بعضه في خانة 'الشعر العالمي'. كما أنّ تنقلاتي من بريطانيا إلى بلدان أُخرى فتحت لي ما أدعوه أفقَ الشعر في أوروبا القارية، وروسيا، وأميركا اللاتينية".

ستأتي ترجمة الشعر في خطوةٍ ثالثة. وعن ذلك يقول: "فهمتُ من تجارب كثيرة خبرها أصدقاء ومعارف أنّ محاولة ترجمة الشعر بالذات هي أمرٌ بالغ التعقيد؛ لأنّ لغته ملتبسةٌ وتعتمد الإيحاء والإشارة والتلميح والترميز بدلاً من البيان والتوضيح والمنطق. على هذا الأساس، فإنّ ترجمة قصيدة من القصائد، وخصوصاً قصائد الشعراء الروحيّين، قد لا تنجح تماماً في إيجاد مُعادِل لغوي ضمن تقاليد اللغة التي تجري الترجمة إليها (اللغة العربية في حالتي). وهذا قد يُعيق الإمساك باللغة الشعرية اللزجة والعصيّة".

يضيف: "رغم هذه المحاذير، خضتُ تجربة الترجمة على مدار أكثر من تسع وعشرين سنة، على نحو متقطّع في الغالب". كانت نتيجةُ هذه التجربة كتاب "مفاتيح اللانهائي" الذي ضمّ مختارات شعرية شملت قرابة خمسين نصّاً لشعراء من منطقة بحر البلطيق وروسيا وبريطانيا واليونان وتشيلي وإسبانيا وفرنسا وبولندا، ثمّ أتبعها بكتابه الجديد الذي جمع نصوصاً لعدد من الشعراء الأوروبيّين والأميركيّين والأفارقة والآسيويّين. يختتم أزراج حديثه إلى "العربي الجديد" بالقول: "في الواقع، فإنّني لا أزال أواصل ترجمة الشعر، وسأصدر في المستقبل القريب الجزء الثالث من هذه المختارات".



بطاقة

وُلد عمر أزراج عام 1949 في منطقة بني مليكش بولاية بجاية شرقَي الجزائر، وهو يُقيم في لندن منذ 1986. من إصداراته في الشعر: "وحرسني الظلّ" (1975)، و"الجميلة تقتل الوحش" (1978)، و"العودة إلى تيزي راشد" (1984)، و"الطريق إلى أنمليكش وقصائد أُخرى" (2005). صدرت له مؤلّفاتٌ أُخرى في النقد الأدبي والدراسات الثقافية؛ من بينها: "الحضور" (1977)، و"أحاديث في الفكر والأدب" (1984)، و"منازل من خزف" (1995).

المساهمون