نعرف جيّداً، نحن أبناء المنطقة العربية، عدوانية الغرب. سال حِبر كثير بلغتنا يتناول مركزية أوروبا وهمجيّتها وتعاليها، دواتُه تاريخ طويل من التضييق والصور النمطية الظالمة واحتكاك تحت عناوين عدة من الاستعمار العسكري المباشر إلى الإكراهات السياسية والاقتصادية المتنوّعة.
اليوم، ومع الحرب في أوكرانيا، يُتاح لنا أن نشاهد الغرب في علاقة عدوانية أخرى. هاهي وسائل الإعلام من ألمانيا إلى شمال القارة الأميركية تشيطن الروس دون تمييز تقريباً. حتى بعض أهل الفن والعلم والفكر قد جعلوا من مُواطني تشيخوف منبوذين، وكأنهم هم من اتخذوا قرار اجتياح أوكرانيا. دون أن ننسى قائمة طويلة من العقوبات الاقتصادية التي تهدف إلى عزل روسيا عن العالم أملاً في إضعاف شوكتها.
صحيح أنّ روسيا باجتياحها أوكرانيا قد وضعت بنفسها شعبَها وثقافتها في مرمى غطرسة الغرب، لكن الرواية الروسية تجعل من هذه الخطوة دفاعية من منظور أوسع، لأنها تستعيد أرضاً يتغلغل الغرب فيها ويحاول أن يجعل منها سكيناً في خاصرتها. من مُنطلق شعوره بالقوة، لا يقبل الغرب خسارة أي أرض سبق وأن تمدّد فيها، ولذلك يذهب في التصعيد بعيداً وقد تسلّح بمعيارية أخلاقية تعمل وفق المطلوب.
من غير المعقول أن يملك طرفٌ سيفاً بتاراً يضرب به من يشاء
بدأت هذه الممارسات منذ عبور الجيش الروسي للحدود الأوكرانية، وكأنها أوراقٌ جاهزة في درج: إقصاء من خدمات رقمية، منع كلّ تعامل ثقافي رياضي (...) نفس الأوراق تبدو جاهزة ضدّ أي كان، وقد مورس الكثيرُ منها ضدّنا، ولكن لكوننا في موقع رد الفعل لا نتمكّن من بناء وعي موضوعيّ لما يحدث.
جعلت الحرب الأوكرانية هذه الممارسات مرئية أكثر، مكثفة في فترة زمنية قصيرة. وتتيح مسافتنا من الأحداث اليوم أن نراها بشكل أفضل مما لو كانت موجّهة ضدنا. مسافة تتيح لنا فسحة من التفكير بأريحية عن سبل التحرّر من السطوة الغربية، وكيف يمكن ترميم الذات وتحديد المسارات في الغابة الجيوسياسية التي نسكنها جميعاً.
في كل هذا، لا يبدو أن الغرب يشعر بفداحة عدوانيته، ربما يحتاج منّا - نحن الذين تقع علينا عدوانيته - أن نجعل من هذه العدوانية مرئية له، تماماً كما فعل هاملت مع قاتل والده. أن نرفع روايتنا عن تحرّشه بتاريخنا وتدميره لبنياننا الروحي على مدى قرون. تختار روسيا السبيل العسكري العدواني للتعبير عن ذلك، وهو بالتأكيد غير متاح لغيرها، وعلى نخبنا أن تطوّر أدوات أخرى لشعوبها كي تأمل في الاستقلالية والكرامة. على مثل هذه الأجندة ينبغي أن يوقظنا القصف.
الحرب في أوكرانيا، بالنسبة للثقافة العربية، هي لحظة تأمّل بامتياز. لحظة انتباه لعلها تأخّرت كثيراً، فقد كان من الممكن أن نقرأ نزعة روسيا للتحرّر من سطوة الغرب في أدبها الحافل، في عصره الذهبي خصوصاً - من غوغول إلى دوستويفسكي - بسجالات تحديد المسافة مع الغرب، وبناء نموذج ذاتي من التحديث. وبعد ذلك ينبغي علينا أن نصوغ في عربية سليمة مقولة مضادة لعدوانية الغرب، فمن غير المعقول أن يملك طرفٌ سيفاً بتاراً يضرب به كيفما اتفق ويشيطن من يشاء.