ينتمي هذا الكتابُ الرائد إلى الحقل الطبّي، وتحديدًا إلى اختصاص الجِراحة، ويتناول مظاهرَ تشوّهات العمود الفقري لدى الأطفال، وهي مرضٌ يُعرف باسم "الجَنَف المُبَكّر"، في ترجمة لعبارة Early-Onset Scoliosis، بما هو "انهضام أَحَدِ شِقَّيْ الإنسان مَعَ اعْتِدَالِ الْآخَرِ"، كما ورد لدى ابن منظور في "اللّسان". وقد أشرف على إصدار هذا الكتاب الجرّاح الفلسطيني علاء عزمي أحمد، بمشاركة من الأكاديمي الهندي المتخصص في الهندسة الطبية آكاش أجروال، عن دار نشر "سرس - تايلر أند فرانسيس غروب" بنيويورك ولندن.
تجتمع في هذا التأليف العلميّ نتائج أبحاثٍ مستفيضة وتجارب علاجيّة متنوّعة نَهض بها أطبّاء من مختلف دول العالم، ولا سيما في البلدان النامية، وعلى رأسهم علاء عَزمي أحمد الذي أجرى أبحاثه في المستشفيات الفلسطينيّة وطوّر تقنية علاجية تكسر احتكار الشركات الغربية، الأمر الذي يَجعل من الكتاب كتابَ تَحدٍّ ونضالٍ، لأنّ معالجة تشوّهات العمود الفقريّ، في ظل احتلال مَقيتٍ وحصار كامل، تعدّ إنجازًا بكلّ المقاييس.
صُدّر كتاب "الجَنَف المبكّر: إرشاداتٌ لإدارته في البلدان ذات المَوارد المَحدودة" (2020) بمقدّمة دقيقة أبان فيها عَزمي أحمد الأسباب السّبعة التي جعلت من إنجاز هذا الكتاب ضرورة ملحّة. وتتلخّص هذه الأسباب في الأهمية المتزايدة التي تكتسيها الجِراحَة الدّقيقة مقارنةً بسائر الوسائل الأُخرى، كتجهيز المختبرات وتوفير خدمات بنوك الدم والتخدير وغيرها. ولذلك، تُعدّ هذه المباحثَ الأولى من نوعها في تحديد الرّهانات الطبّية والماليّة التي تستدعيها معالجة "الجَنَف" في البلدان ذات الموارد المَحدودة. كما تستعرض المراحل التطبيقيّة التي تسبق إجراء العمليّات وتليها، فضلاً عن خطواتِها اللوجستيّة والتنظيميّة وحتى القانونيّة.
يكتسي منهجُ الكتاب وموضوعه بعداً ثقافيّاً وحتى ثوريّاً
وهكذا، فالكتاب "إرشادات" و"توجيهاتٌ" مُستمدّة من تجاربَ حقيقيّة نهض بها الأطبّاء المشاركون في هذا العمل المُؤَلّف من مقدّمة وأربعة وعشرين فصلاً وخاتمة، فضلاً عن الملاحق والرّموز الاختصاصيّة، وقد صاغها زهاءَ خمسين باحثًا من مختلف أقطار العالم (الوطن العربي، أوروبا، أميركا الجنوبية، الهند، الصين...)، حيث توحّدَت هذه الكفاءات على الالتزام بمقاومة المركزيّة- الطبّية الغربيّة والاجتهاد في إشراك الدول النامية للاستفادة من تجاربها وكفاءاتها المغمورة لإيجاد العلاج البَديل.
وتدور بعض هذه المَقالات حول أسباب "الجَنَف المبكّر" ومظاهر التشوّه والاعوجاج التي تصيب العمود الفقريّ للأطفال دون سنّ العاشرة، إما وراثةً أو اكتسابًا، والتي قد تتواصل خلال فترة المراهقة، فتجعل من نموّ العظام عرضة للعديد من الانحرافات. وحسب هذه الدراسات، فإنّ الأسباب الحقيقيّة لهذه العلّة ليست واضحة للعيان، حيث لم يتمكّن العلم الحديث من تفسيرها بشكل معمّق ضمن نظريّة متماسكة، كما تقتضي معالجتُها وجودَ مؤسّسات طبيّة متقدمة، تتوفّر على العديد من المرافق والآليات الدقيقة التي تساعد على التحكّم في فَقَرات العمود، فضلاً عن التمكّن من التخصّصات الطبّية الأُخرى التي ترفد هذا الحقل الدقيق بالمعطيات اللازمة من أجل فهمٍ أفضلَ لظاهرة الجَنَف.
كما تشير هذه الأبحاث إلى أنّ هذه الظاهرة تنتشر بشكل أكبر في البُلدان ذات الموارد المَحدودة، والتي يُرمز لها في فصول الكتاب بمختصر: CLRS؛ أيْ: البُلدان النامية، الواقعة في منطقة "الشرق الأوسط" وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة وآسيا، ممّا يجعل التصدّي لعلاج هذه العلّة المُستعصية تحدّيًا سياسيًّا واقتصاديًّا بالدرجة الأولى، يستدعي انخراط الدولة بمؤسّساتها الطبّية ومواردها الماليّة، كما يستدعي، على المدى المتوسّط، تعاونًا ثقافيًّا وعلميًّا، يشمل نشرَ الأبحاث الطبّية وتبادلها بين المختصّين من مختلف البلدان، من أجل تطوير إستراتيجيّة مشتركة بعيدة المدى، ولا سيما في ظلّ التراجع الحادّ للمساعدات الطبّيّة التي كانت الدول الغنيّة تُرسلها إلى البلدان الفقيرة، وإن بشكلٍ شَحيح لا يفي باحتياجاتها المتزايدة. وقد شهدت هذه المساعدات تقلّصًا كبيرًا منذ جائحة كورونا والحرب الروسيّة.
يقترح الكتاب حلولاً لإتاحة جراحة الجَنَف المُبكر للجميع
ويؤكد عزمي أحمد أنّ الكتابَ جاء ليسدّ فراغًا حقيقيًّا في المشهد الطبّي العلمي لسائر دول أفريقيا وآسيا، فضلاً عن دول "الشرق الأوسط"، ولهذا السبب كُتب رأسًا باللغة الإنكليزيّة حتى يَضمن له أكبر انتشار في العالم، ويوفّر للمختصّين، كما للقرّاء المهتمّين، بعض الإجابات النظريّة ونتائج الأبحاث من أجل تطبيقها في البلدان ذات الدخل المحدود، في قَطع مع الهيمنة الأورو- أميركيّة على هذا الحقل وعلى الطرق السائدة إلى حدّ الآن، والتي تتطلّب إمكاناتٍ هائلة، ربّما وقع تضخيمُها عمدًا حتى تُحرمَ الدّول الفقيرة من استخدامها فتَظلّ مرتهنةً بالغَرب، متوقّفةً على معارفه وطرقه في معالجة هذا الداء العُضال.
ولا تنبغي الاستهانة هنا بالعبء الاقتصادي المنجرّ عن إدارة الجَنَف ومكافحته، وهو عبءٌ تعجز عنه المنظومات الصحيّة. ولذلك، تُقدّم هذه المقالات أفضل الوسائل لتطوير هذه المنظومات، في هذه البلدان، كجزء من حَوكمة البرامج الوطنية وترشيد التعليم الطبّي وسائر قطاعات الصّحة والاقتصاد المتعلقة بتنفيذ العمليات الجراحيّة في المؤسسات ذات الموارد المحدودة عبر تنفيذ مفاهيم الرعاية المُدارَة وتنشيط برامج التوعية العالميّة وبناء فرق محليّة متخصّصة...
وهكذا، يكتسي منهجُ الكتاب وموضوعه بعدًا ثقافيًّا وحتى ثوريًّا، يتمثّل في تعرية الاحتكار الطبّي الذي يمارسه الغرب على العلوم التجريبيّة وعلى وسائل تطوير اللقاحات والوقاية من الأمراض، عبر احتجازٍ مَقصود للمَعارف التي تشمل بعض القطاعات الحسّاسة، ولاسيما التقنيات الجراحيّة الدقيقة، حتى تظلّ تلك الدول النامية رهينة اعتمادها الكلّي على المعارف الغربيّة.
يعرّي الاحتكار الذي يمارسه الغرب على العلوم التجريبيّة
وهكذا، تتوالى فُصول الكتاب مستعيدةً أهمّ الإرشادات والملاحظات الكفيلة بتطوير جراحة داء الجَنَف المبكّر، داعيةً، ضمنًا وصراحةً، إلى تطوير الأطر الطبّيّة لإنجاحها في المؤسّسات الجراحيّة (العيادات والمُستشفيات) ذات الموارد المحدودة. وفي ذات الآن، يستدعي هذا الكتاب، رغم طابعه الطبّي المتخصّص، سؤالاً فلسفيًّا: بأيّ حقٍّ واستنادًا إلى أي نظامٍ قيميّ، تشرّع الدول المتقدّمة لنفسها احتكارَ المَعارف العلميّة الدقيقة الخاصّة بالأمراض النادرة صعبةِ العلاج؟ هل تعطيها استثماراتُها الماليّة الحقّ في حرمان الآخرين ممّا توصّلت إليه من النتائج؟ وهل يمكن لأنظار العقول أن توصد عليها أبواب المختبرات حتى تصير سلعةً تحتكر حقّ التصرّف التجاري فيها؟ هل على حقل الأدوية واللقاحات أن يخرج من نطاق التنافس السياسيّ التجاري لتفيد منه كلّ دول العالم، الفقيرة والغنيّة على حدّ سواء؟
أجاب الكتاب عن كل هذه الأسئلة، بل وتجاوزها، وأبان عن عدم واقعيّتها، ثمّ طرح طريقًا ثالثًا قد يجعل من جراحة الجَنَف المُبكر أمرًا متاحًا في أكثر المؤسّسات تواضعًا. ولذلك لا بدّ من ترجمة هذا الكتاب إلى لغة الضّاد، ليس فقط من أجل نقل التقنيات الجراحيّة الخاصّة بمرض الجَنَف وتعميمها، وإنّما لمزيد من تطوير الحقول المعجميّة المتعلّقة بالطبّ الجراحي، والتي كانت من أوّل المجالات التي شَهدت، إلى جانب الحقليْن القانونيّ والعسكريّ، عمليات توليد مصطلحيّ، منذ عَصر الطّهطاويّ. ألم تُبِنْ جائحةُ كورونا، وما بالعهد من قِدم، الأهميّة القصوى التي تكتسيها التوعية الطبّية باللسان العربي، بعد إيجاد المُصطلحات التقنيّة المقابلة لكلّ مقولات الطبّ الحديث، وهذا تحدّ من نوعٍ آخر.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس