ضمن "سلسلة مذكّرات وشهادات"، صدر قبل أيام عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتابٌ جديد بعنوان "مذكّرات عبد السلام أحمد جلود: الملحمة"، وفيه يُضيء رئيس الوزراء الليبي السابق على فترة من تاريخ ليبيا الحديث وعلاقاتها العربية والإقليمية والدولية، من خلال سيرته الذاتية وتجربته السياسية الممتدّة على ما لا يقلّ عن ثلاثين سنة.
في عشرة فصول وملحق صُور، يروي أحمد جلود محطّات من حياته؛ بداية بطفولته، ثم التقائه بمعمّر القذّافي حين كانا طالبَين، وتعرُّضهما للسجن خلال مظاهرة طلّابية في مدينة سبها، ثمّ التحضير لانقلاب 1969، ثمّ تولّيه منصب رئيس الوزراء بين 1972 -1977، ثمّ استقالته من مناصبه عام 1992 بسبب خلافه مع القذّافي، وصولاً إلى وقوفه إلى جانب الانتفاضة الشعبية عام 2011.
وتتطرّق المذكّرات إلى دور ليبيا على مستوى العلاقات الدولية والحركات الثورية في العالم الثالث، خلال مرحلة زاخرة وعاصفة بالتحوّلات التي ما زالت آثارها ومراجعتها وتقييمها ممتدّة حتى اليوم.
يقف الكاتب عند تأسيس "حركة الوحدويين الأحرار" برئاسة القذّافي عام 1960، وما سبقه من أحداث أجَّجت فكرة العمل الثوري لديه، خصوصاً بعد تعرّفه إلى أفكار ثورية قومية عربية وبعثية وماركسية وغيرها، ذاكراً أنّ القذّافي اقترح، عام 1963، أن يتوجّه أعضاء الحركة إلى الكلية العسكرية، متخلّياً عن أساس الحركة المتمثّل في التوجه إلى الجامعات والمعاهد العليا لتفجير ثورة شعبية تطيح النظام الملكي.
أكّدت الأحداث أن النظام الملكي كان منهاراً، وأن "ثورة الفاتح" جاءت لتعلن سقوطه فحسب
وفي معرض حديثه عن التحضير لـ"ثورة" 1969، يذكر: "قبل أشهر من الإعداد لتفجير الثورة، بدأنا حملة لتهيئة المناخ الثوري في الشارع الليبي، وبدأنا بطباعة المنشورات التي تهاجم النظام وتدعو إلى الثورة عليه، وتوزيعها في الأماكن العامة".
ويُشير إلى أنه "في عام 1968، أبرم النظام الملكي مع بريطانيا صفقة بشأن الدفاع الجوي، فقرّر النظام تفريغ الجيش من حركة الضبّاط الأحرار، وذلك بإرسال أكبر عدد ممكن من الضبّاط الليبيّين إلى بريطانيا في عملية 'إنهاء' للحركة"، مضيفاً أنه "في ليلة الفاتح، كان هؤلاء الضباط يستعدّون للسفر في الصباح الباكر إلى بريطانيا، فتظاهرنا بتوديعهم، ولكنهم، بدلاً من أن يذهبوا إلى المطار، ذهبوا لتنفيذ مهمّاتهم الثورية".
ويتحدّث الكاتب عن كيفية تأسيس التنظيم الشعبي في الشوارع والأحياء ثم حركة اللجان الثورية بعد انطلاق الثورة، معتبراً أن مجريات الأحداث أكّدت أن النظام الملكي كان منهاراً، وأن "ثورة الفاتح" جاءت لتعلن سقوطه فحسب، مستدلّاً بأنّ "الثورة" لم تواجه أي نوع من المقاومة، مضيفاً أنه ورغم إعلان حالة الطوارئ ومنع التجوال، فإن الجماهير رفضت الإذعان للقرار، وخرجت المدن والقرى إلى الشوارع في كتل بشرية هائلة دعماً للثورة.
يتناول الكاتب، في الفصل الثاني "حينما أصبحت رئيساً لوزراء ليبيا"، مفاوضات الإجلاء وإذعان الإنكليز والأميركيين بعد مناورات يائسة، وطرد "المستوطنين الطليان"، ثم "ثورة النفط".
ويتناول الفصل الثالث "العلاقة مع مصر" خلال فترة جمال عبد الناصر، ثمّ في فترة أنور السادات، والتي شهدت اشتباكاً بين البلدين على الحدود عام 1977، ثم تأسيس "جبهة الصمود التصدي"، وصولاً إلى "عودة مصر" لحضور مؤتمرات القمة العربية والمؤتمر الإسلامي.
وبعد الكلام عن "الحرب الأهلية في لبنان"، في الفصل الرابع، يتناول الكتاب في الفصلين الخامس والسادس محطات عربية ودولية كثيرة في حركة الثورة الليبية وتأثيراتها وتفاعلاتها، عربياً ودولياً وإقليمياً. من ذلك موقف ليبيا من تحرير الصحراء الغربية، ومن العلاقة مع الجزائر، ومن تجربة اتحاد المغرب العربي، ومن الخليج العربي، كما تطرّق إلى لغز اختفاء موسى الصدر، والموقف من صدام حسين واحتلال الكويت.
يسرد الأحداث التي أدت به إلى أن يستقيل من منصبه عام 1992
وتوسّع في الفصل السابع في قضية "الحرب في تشاد"، مشيراً إلى أن مواقف كثير من الدول العربية قبل الأجنبية، عارضت هذا التدخل الليبي في تشاد، واعتبرته محاولة ضم لها، متطرّقاً إلى تكلفة هذه "الحرب العبثية"، وأثرها في الوضع الاقتصادي الليبي، وخاصة بعد هبوط سعر النفط بين عامي 1983 و1984. أمّا في الثامن، فتناول قضية "لوكربي" والمواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية.
يذكر الكاتب الأوراق الإصلاحية الثلاث التي تضمنت نقداً للجان الثورية ولبعض مقولات "الكتاب الأخضر" وخطة لإعادة تنظيم القوات المسلحة، وبرنامجاً جذرياً للتغيير، وهو ما يقول إن القذافي التفّ عليه بسلوكات التفافية معاكسة، كما يصف الكاتب ويسرد الأحداث التي أدت به إلى أن يستقيل من منصبه في أيار/ مايو 1992.
ثم يذكر حادثة تسليم الملك الحسن الثاني لعمر المحيشي، وما أثارته في نفسه من تصرّفات العقيد القذافي، وظل الكاتب يتتبع تسلسل الأحداث وصولاً إلى عام 2010، حينما كان هو في باريس فأرسل إليه القذافي أولاده، ليحاولوا إقناعه بالعودة إلى ليبيا ليستلم الحكم، قبل أن يتّصل به شخصياً، لكن بلا جدوى.
وعند اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد القذافي في عام 2011، يذكر احمد جلود أنه اتخذ قراراً بالوقوف إلى جانب الشعب و"دعم الثوار بالسلاح".