حينما نتحدّث عن الإضافة المغربية إلى التفكير العربي المعاصر، وعن الأسماء القائمة بهذا المشهد الفكري المغربي منذ عقود، فإن اسم عبد السلام بنعبد العالي يحضر تلقائياً في سياق ترد فيه، أيضاً، أسماء مواطنين له مثل عبد الكبير الخطيبي، وفاطمة المرنيسي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، ومحمد سبيلا، وغيرهم. ذلك أن صاحب "النصّ المتعدِّد" قد شارك، منذ الثمانينيات وحتى اليوم، في مجمل النقاشات والتوجّهات النظرية التي شغلت المثقّفين العرب، بل إنه كان، خلال عقود، من أبرز مَن زوّدوا هذه النقاشات بمادّة فكرية خام نقلها في ترجماته لفلاسفة ومفكرين فرنسيين على وجه الخصوص، ولا سيّما تلك التي وضعها مع الراحل محمد سبيلا في سلسلتهما "دفاتر فلسفية" (منشورات توبقال).
وهذا ما ينتبه إليه الكاتب والأكاديمي المغربي، المعطي قبّال، حين يشير إلى إسهام بنعبد العالي، إلى جانب عدد من مثقّفي جيله، ترجمةً وتعريفاً وتأويلاً، في تداول المثقّفين العرب لأسماء مثل رولان بارت، وميشيل فوكو، وجوليا كريستيفا، وبيير بورديو، وموريس بلانشو، وجيرار جينيت وغيرهم، وكذلك إسهامه مع آخرين في سكّ أو إشاعة صياغات عربية لمفاهيم فرنسية مثل القطيعة الإبيستيمولوجية، والتغايُر، والفكر البرّي. كلامُ قبّال جاء في ندوة تكريمية للمفكّر والمترجم المغربي عُقدت، يوم الجمعة الماضي، على هامش فعاليات "موسم أصيلة الثقافي الدولي"، الذي تستمرّ دورته الخريفية، الثالثة والأربعون، في مدينة أصيلة المغربية (200 كلم شمال الرباط) حتى الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
وفي كلمته، قال أمين مؤسسة "منتدى أصيلة"، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، محمد بن عيسى، إن المؤسسة اختارت تكريم بنعبد العالي هذه السنة "لِما يجسّده من تجربة طويلة ومنتِجة في حقل البحث والتأليف الفلسفي والترجمة"، وتقديراً "لمكانته بوصفه مفكّراً طليعياً ساهم بكثافة في التنوير العقلاني والتجديد الفكري وفي تمكين قرّاء اللغة العربية من الاطّلاع المستمرّ، عبر ترجماته، على أمّهات النصوص في الفكر الفلسفي الغربي المعاصر"، مشيراً إلى أن هذا المنتدى يشكّل فرصة لإعادة تأمل أعمال بنعبد العالي، ولاستعادة صفحات من مساره الفكري.
التأمّل في تجربة المحتفى به قاد الباحث كمال عبد اللطيف إلى التركيز على مسألتين: الإيقاع في مؤلّفات بنعبد العالي، حيث "نصوصه ألوان من الإيقاع الذي يخفت، يغيب، ثم يرتفع ويصدح"، وانتباهه لدور الفلسفة في حياتنا، إذ "تعكس خياراته في البحث والكتابة والترجمة جوانب من إيمانٍ بالأدوار المنتظرة اليوم من الفلسفة، ومن فعالية النظرية الفلسفية، خاصة عندما توظَّف لمحاصرة أنماط الفكر المحافظ السائد في ثقافتنا، وهو فكر أصبح يمتلك اليوم سلطة كبيرة"، كما يقول عبد اللطيف.
لا يطالبنا بالنجاح في اختبار فلسفة بل بالاستمتاع بمغامرة فلسفية
ولا يبتعد الشاعر والروائي محمد الأشعري عن هذه الالتقاطة حين يقول إن بنعبد العالي "اختار أن يخوض بالفلسفة غِمار الحياة اليومية، وفي الغالب عن طريق الصحافة. اختار أن يختبر الفلسفة وقدرتها على الحصول على موطئ قدم بيننا، بمواجهتها مع قضايا المعيش في تجلّياته السياسية والثقافية وفي تمظهراته من خلال المتكرّر والمعتاد والطارئ والمستمرّ والمضمحل والدائم والعابر"، مشيراً إلى "صعوبة ذلك التمرين الذي ينتقل من الجزئيات إلى الكلّيات وبالعكس، ويبني بما يبدو متناثراً ومتشظّياً كتلةً متماسكة من الأسئلة والملاحظات والتدقيقات".
ويشير وزير الثقافة والاتصال الأسبق إلى "ملمح أساسي في هذه النصوص المتشظّية والمتماسكة في آن واحد: إنها تقترح علينا تفكيراً بواسطة متعة الكتابة؛ إعمال الذهن دون امتحانٍ قاسٍ لقدرته على الاستيعاب والتفاعل، ففي نهاية المطاف لا يطالبنا الكاتب (بنعبد العالي) بالنجاح في اختبار الفلسفة، ولكن بالاستمتاع بمغامرة فلسفية".
ولعلّ هذه المتعة ليست غريبة عن علاقة بنعبد العالي باللغة، وهو الذي وضع حولها ــ وحول الترجمة ــ العديد من الأعمال، بل كانت أمراً شاغلاً له بسبب ضرورتها وأساسيّتها كوسيلة تساعدة في إعادة تقديم الفلسفة كحقل أقلّ جفافاً ممّا يُعتقَد في التصوّرات الشائعة. ولا يذهب المعطي قبّال بعيداً عن هذا الهمّ اللغوي والأسلوبي حين يذكّر بدور بنعبد العالي، إلى جانب عدد من أبناء جيله، "في تخفيف الخطاب الفلسفي العربي المعاصر من أثقاله البلاغية والتركيبية التقليدية التي كانت عائقاً في وجه كسبه لثقة التجديد".