"عازف البيانو" في غزّة

29 فبراير 2024
امرأةٌ تستند إلى عمود خيمة نُصبت في مدرسة تحوّلت إلى ملجأ، ديرالبلح، شباط/ فبراير (Getty)
+ الخط -

في كلّ مرّة أُشاهِد الجرائم التي ترتكبها قوّات الاحتلال الإسرائيلي بحقّ أهلنا في غزّة، أتساءل: كيف يُمكن للأدب أو الفنّ أن يُنتج إبداعات مُؤثّرة لعرض ما حدث ويحدُث من أفعال الإبادة الجماعية؟ والتي تُنفَّذ على الغزيّين والغزّيّات حدّ التفنُّن في القتل وأفعال الإبادة، وتفوق كلّ وصفٍ أو مُخيّلة بشريّة يُمكن لها أن تُنتج إبداعاتٍ لوصف هذه الإبادة. فهي تحدُث مباشرة أمام الكاميرات وبالبثّ الحيّ المُباشر، عبر شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي في العالَم كلّه. وكأنّ من يرتكبُها لا يعبأ، بل ربما يتعمّد أن يفعلها أمام أنظار العالَم، بما هو أبعد من الصّلَف والفجور اللذين لا يتركان للمخيّلة الإبداعيّة تصويرها لاحقاً.

إبادةٌ، لا يعبأ من يرتكبُها بغضبنا أو استنكارنا وصدمتنا ممّا يحدث. فـ"إسرائيل" التي تصرّفت منذ تأسيسها ككيان فوق القانون، وارتكبت على مدى خمسة وسبعين عاماً، هي عُمر نكبة فلسطين، فظائعَ وتطهيراً عرقيّاً لم تُعاقَب عليه حتى اللحظة، جعلها تتمادى بجرائمها وتتباهى علناً بارتكابها. لا بل تُصرُّ على ارتكابها، رغم احتجاجات استنكارٍ عارمة عمّت دُول العالَم العربي والغربي وغير الغربي. ورغم أنف أوامر "محكمة العدل الدولية" الصادرة في السادس والعشرين من كانون الثاني/ يناير الماضي، والتي أمرتها بتدابير احترازيّة تمنع أفعال الإبادة. بل ورغم مُناشدات العديد من الدُّول في العالَم لوقف إطلاق النار، كي تتوقّف حرب الإبادة الجماعية، والتي كان آخرها في "مجلس الأمن"، حيث اصطدم المُقترح الجزائري بثالث "فيتو" أميركي يمنع وقف إطلاق النار منذ بداية العدوان الذي دخل شهره الخامس. إذ تضاعفت أفعالُ الإبادة عبر التجويع، وبات أكثر من ثلاثة أرباع السكّان مُهدّدين بالموت جوعاً، غالبيّتهم من الأطفال.

حين حدثت "المحرقة اليهودية" (الهولوكوست) على يد هتلر ونظامه النّازي، لم يكن التلفاز قد انتشر بعد حول العالم كلّه، ليُمكِّن من مُشاهدة ما يحدُث بالعين المُجرّدة. لكن تمّ توثيق أفعال النّازيّة في ارتكابها لجرائم الإبادة بحقّ اليهود في أوروبا، أو الأراضي الأوروبية التي احتلّها هتلر أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت الصحافة في ذلك الوقت مكتوبة بالغالب، ومسموعة عبر أجهزة الراديو التي لم تكن متوفّرة بعد في كلّ بيت. أي كانت الأخبار تأخُذ وقتاً حتى تصل إلى الناس، سواء محليّاً أو عالميّاً. هذا ناهيك عن إمكانيّة النشر أو مُمارسة حقّ التعبير أو إيلاء درجة اهتمام كافية لِمَا كان يحدُث لليهود، حتى في الدُّول التي لم تكُن تحت الاحتلال الألماني. 

تجاوزت الإبادة التاريخية حدود فلسطين وشملت مخيّمات الشتات

كانت القسوة النازيّة تُجاه اليهود تفوق الوصف. لكنّ أفعال الإبادة لم تُنقَل بالبثّ الحيّ ولا على مواقع التواصل الاجتماعي، كما يحدُث اليوم في غزّة. وقد جرى توثيق روايات الهولوكوست لاحقاً في العديد من الكُتب والرِّوايات والسِّير الذاتية للناجين. أُنتج أيضاً العديد من الأفلام مثل "حارس أوشفيتز"، و"الهروب من سوبيبور"، و"عازف البيانو" وغيرها من أفلام مُؤثّرة ساهمت بطريقة مُبهِرة في اطّلاع العالَم على ما حدث لليهود على يد النازية.

أعدتُ، مؤخّراً، مشاهدة فيلم "عازف البيانو"، للمرّة الثالثة على سبيل المقارنة، وهو من بطولة أدريان برودي وإميليا فوكس وفرانك فينلّي. فكان أن غضبتُ مُجدّداً، وبكيتُ كما حدَث لي في أوّل مرّة وثاني مرّة شاهدتُه فيها. خاصة حين يبحث أدريان برودي عن الطعام في أكوام القمامة، أو حين فرّقته المأساة عن عائلته وهي تُساق في قطار إلى جهة مجهولة، تمكّن هو من النجاة بمساعدة أحد أفراد الشرطة اليهود المتواطئين مع النّازيّة، أو حين ينجو من الإعدام بالرّصاص لأنّ الجنديّ المخوّل بالإعدام الجماعي لليهود لم يؤشّر عليه، في تقاطُع أو تشابُه لأفعال الإبادة التي تجري في غزّة لكن بشكلٍ مُضاعف اليوم، لكنّها تتساوى بحجم الوحشية.  

العمل من توقيع المخرج البولندي رومان بولانسكي عام 2002، وسيناريو رونالد هاورد، وهو مأخوذ عن كتاب يحمل العنوان نفسه، يصوّر حياة عازف البيانو البولندي اليهودي فلاديسلاف شبيلمان، والفظائع التي تعرّض لها وعائلته أثناء الإبادة الجماعية، ومُدعَّم بأحداث تاريخية تُوثّق للإبادة في بوتقة فنّية سينمائية ومشهديّة مُذهلة تفطر القلوب، لكنّها رغم ذلك لا تتفوّق على المَشاهد الحيّة، التي تُبثُّ إلينا يوميّاً وعلى مدار الساعة مُباشرةً من غزّة، وعلى مدى أكثر من أربعة أشهر، هو زمن حرب الإبادة الفلسطينية الجديدة. 

تفوّق الصهاينة بجرائمهم في غزّة على ما ارتكبه النازيّون

هذا من غير أن نحسب ما سبقها منذ 1948، وحتى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فقد ارتكبت "إسرائيل" مجازر وإبادات متواصلة وتطهيراً عِرقيّاً بحقّ الشعب الفلسطينيّ، ولم تُوفّر أيّة فُرصة سانحة لتفعل أو تتواطَأ مع قوىً محلّية تتشارك معها في قتل اللّاجئين الفلسطينيّين في مخيّمات اللجوء العربية، كمجزرة "صبرا وشاتيلا"، وقبلها مجزرتَي "تل الزعتر" و"جسر الباشا"، وبعدها حرب المُخيّمات، ومن ثم تدمير مخيّم نهر البارد، وما تبعها من مجازر في مخيّم اليرموك بسورية، الذي جرت تسويتُه بالأرض بعد عامين من الحصار والتجويع، وبالتوازي مع تدمير مخيّم حندرات وحصار مخيّم النيرب. 

كلُّ ما سبق حدث وسط صمت مُريب لا يُبدّده سوى التقاطُع أو التواطؤ أو الاثنين معاً، مع مَن ارتكبوا هذه المجازر بوصفها تطهيراً عرقيّاً مُمنهجاً شديدَ الوضوح، واصلته "إسرائيل" في داخل فلسطين التاريخية وخارجها، وما زالت تفعل وتُواصل في القدس والضفّة الغربية قبل العُدوان، والذي استعر أكثر بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كذريعة لم يكُن يحتاجها الاحتلال كي يرتكب جرائمه.

من المؤكَّد أنّه سيأتي يومٌ ينكشف فيه كلّ ما استُتِر من عمليات التطهير العِرقي، إذ بيّنت الإبادة الجماعية في غزّة النوايا الجدّية، الجديدة/ القديمة، لارتكابها ممّا سيقودنا إلى تأكيد الشكوك التي طاولت عمليات الإبادة خارج فلسطين أيضاً، واستهدفت مخيّمات اللجوء في لبنان، وسورية، والعراق، والأردن ربّما، وربّما في ليبيا حين طرد القذّافي آلاف الفلسطينيّين ممّن كانوا يعملون هُناك إلى العراء في صحراء أوزو، وإن بدت حينها كردّة فعل على رفضه لـ"اتفاقيّات أوسلو". 

أعتقد بعد حرب الإبادة الجماعيّة هذه، يحقُّ لنا أن نشكَّ بضلوع "إسرائيل" في المجازر التي ارتُكبت بحقّ اللاجئين الفلسطينيّين خصوصاً، إنْ في داخل فلسطين التاريخيّة أو خارجها. يحقّ لنا أن نتّهم "إسرائيل"، كشريك له دافع قويّ للتواطؤ مع أطراف عربيّة محلّية ورسميّة، ليس فقط عن طريق المجازر، بل أيضاً من خلال الانتهاكات العُنصرية التي أبقت الشعب الفلسطيني فقيراً مُعدَماً في مخيّمات اللجوء، يعيش على هامش الهامش في تلك الدُّول. أو أن يتمّ التعامُل مع أبناء هذا الشعب كملفٍّ أمني ولا يُسمَح لهم بالعمل كما في لبنان، أو التنقّل بحُرّية كما في مصر، أو التضييق المُمنهَج لمنعهم من التسلُّل عبر الحدود إلى فلسطين، واعتقال من تسوّل له نفسُه أن يفعل ويجرؤ على محاربة "إسرائيل" بهدف تحرير بلاده كما في سورية. وأمثلة لا تتّسع لها هذه المقالة، وتحتاج لمئات الكتب وعمليات التوثيق الدقيقة والممنهجة للإحاطة بكلّ أفعال الإبادة التي ارتكبتها "إسرائيل" ولا تزال، بشكل لا يدع مجالاً للشكّ في أحداث عديدة على مدى قرن من الزمن، أي ما قبل النكبة أيضاً. 

يقودُنا هذا إلى التساؤل حول قُدرة المُبدِعات والمُبدعين على تمثيل هذه الأفعال الوحشيّة منها، والناعمة أيضاً، كاغتيالات قادة الثورة العابرة للحدود. ومن تمكُّنهم/ـنَّ من الإحاطة بكلّ أفعال الإبادة، إنْ في أنواع المُنتجات الأدبيّة والفنّية، أو حتّى ما تستطيع أن تقدّمه السينما مثلاً، لتجسيد لحظتنا الآنيّة مُستقبلاً، وكذلك القدرة على التفوّق، إبداعيّاً، على تلك المَشاهِد الحيَّة التي نُشاهدها الآن وعلى مدى الساعة دون توقّف. كي لا تتكرّر، ربّما، أفعالُ الإبادة الجماعية بشكلٍ قاطع ونهائي في مكان آخَر. لأنها للأسف تكرّرت على أيدي ضحايا الهولوكوست أو أحفادهم، بما يُشبه المُتلازِمة التي فاقت بجرائمها الهولوكوست نفسه، والأهمّ من هذا كلّه، أنّها إبادة جماعية فاقت كلّ مخيّلة يُمكن أن يصلَها أيّ عقل مهما بلغت درجة تخيُّله أو إبداعه. 

ولعلّ أهمّ ما قد تُساهم به المُبدعات والمبدعون في تجسيد الترويع الذي مارسته على العالَم حربُ الإبادة الجماعية لأهل غزّة، هو الإجابة عن السؤال: ماذا يعني أن تقوم بإبادة جماعيّة مُتلفَزة وبالبثّ الحيّ أمام أنظار العالَم كلّه، من غير أن يرفّ للفاعل جفنٌ أو يردعه شيءٌ من فتات شعور؟

الأسوأ أن تنتمي لجماعة القتَلة ممّن يرتكبون الفظائع باسمك ولا تُحرّك ساكناً من أجل أن توقّف هذه الإبادة. أتساءل الآن: ما كان ليقول إميل زولا لو عاش ليشهدَ كلّ الفظائع التي ارتُكبت بحقّ اليهود، وبحقّ الفلسطينيّين والفلسطينيّات على مدى قرن كامل؟ مَن كان ليتّهم: النازيّة أو الصهيونيّة، أو الغرب الاستعماري والاستيطاني أو العرب الطُّغاة، أو ربّما عَجْز البشرية في أن تبني عدالة عابرة للقارّات تُحقِّق، تُحاسب، تحمي، وتُعاقِب.

مَن يعزف موسيقى الحياة من أجل غزّة؟ مَن يعزف موسيقى الرّحيل؟

* كاتبة وإعلامية فلسطينية

المساهمون