استمع إلى الملخص
- تواجه الرواية تحديات تتعلق بالظروف المحيطة بالكتابة والنشر، مما خلق حاجة للتعبير عن التجارب الإنسانية بعيدًا عن التأريخ الرسمي، وأتاح للكتاب تقديم أصوات متنوعة.
- ساهمت تجربة الحرية في تحرير الأصوات وظهور روايات عديدة، متجاوزة القنوات التقليدية للثقافة السورية، مما مكن الكتاب من التعبير عن رؤاهم دون قيود.
يُؤخذ على الرواية السورية في العقد الأخير كثرتها. أقصد عدد الإصدارات الكبير الذي ترافق مع الحدث السوري منذ بدايته في مطلع عام 2011. أقول حدثاً بحيادية، لأنّ ما يشغلني هو استقباله روائياً. استقبالٌ ظهر بمئات الروايات، وأصبح هذا العدد بطريقةٍ ما مأخذاً على الكتابة، وغالباً ما يشتكي مَن يورده مِن قلّة النصوص الفارقة. لكنّ تفسير هذا العدد من الروايات، لا يأتي من طبيعة القول أو من شكل القول أو من فنّيته، بقدر ما يأتي من ضرورته، ومن اكتسابه صوتاً محلّياً.
ربّما جزءٌ كبير من مأزق الرواية السورية يأتي من خارجها، من الظرف الذي يحيط بالكتابة والنشر، ومن الظرف الحارق الذي صنع لحظة الكتابة أساساً، عدا عن طبيعة الحدث المتغيّرة الآنية التي تشتمل على صنوف العنف والإقصاء، وتهميش ما هو جوهري وعادي في التجربة الإنسانية. وهو باختصار، ظرفٌ صنعه غياب السياسة، لا حضورها.
هكذا، وجدت الرواية السورية نفسها تأخذ دوراً شاغراً؛ هو توثيق الواقع المتغيّر بشكل لا يمكن الإحاطة به، توثيق لا بالمعنى الذي سيصبح تأريخاً رسمياً للحدث، وإنّما بالمعنى اليومي، الذاتي، بالمعنى الشخصي الذي ينطوي على زاوية رؤية محدّدة، وعلى موقف شخصي بالمجمل قد يدفع أحدهم إلى رؤية الحدث العام بصورة متمايزة عن الصورة التي يراها آخر. لكن في النهاية، ما صنع العدد الكبير من الروايات أظنّه ضرورة أن نحكي، ضرورة أن نروي جميعاً الحدث المبهم الشاسع من الزوايا كلّها، وبأكبر قدرٍ ممكن من زوايا الرؤية.
من البداهة أن لزاوية الرؤية في أيّ نص روائي أهمّية مثلى، لاعتبارات فنّية بالمبدأ، لأنّ مَن يروي نصّاً، يملك بطبيعة الحال سلطةً على الشخصيات، وبالتالي لديه سلطة على القارئ. والسوية الفنّية للنصّ الروائي تعلو كلّما خفتت تلك السلطة التي يحوزها السارد. الروائي عمليّاً ينازع ويحتكّ مع السارد كي ينزع عنه تلك السلطة، ويوزّعها على الآخرين وصولاً إلى نصّ متعدّد الأصوات، منفتح على التباس هذا العالم وتعدُّد وجهات النظر فيه، وانفتاح آفاقه. وكي يتيح الكاتب لشخوصه أن تقول مقولاتها بصوتها وبلغتها وبأسلوبها.
لم يعُد إلزامياً العبور عبر القنوات التقليدية للثقافة السورية
هذه المقاربة تحدث من داخل السرد؛ أي من داخل الجملة السردية نفسها. أمّا خارج السرد، فقد أتاحت تجربة الحرّية للكثيرين أن يقولوا ويكتبوا، وإن كانت مفردة الحرّية هنا ستثير اعتراضاتٍ كثيرة - بعضها مُحقّ - لأنّ الحال ليس بالمثالية التي يفترضها المقال، بل ما حصل في العموم السوري هو استبدالٌ قسري للقوى المتحكّمة بالواقع. مع ذلك، فإنّ شبهة لحظية بإمكانِ الحرية، باقترابها، حرّرت ألسنةً وأطلقت كلمات. والعدد الكبير من الروايات، يأتي من تجربة شبهة الحرّية هذه. من تجربة أن نسمع صوتنا في الاستديو الذي أعدّته لنا الحرب. وهذه المسوّغات تأتي من ضرورة أن يحفظ أحدُهم أصوات الضحايا، وفي الوقت عينه، تأتي بنتاً لتجربة الحرّية، ومع الأخذ بالاعتراضات التي قد تُسجَّل على هذا القول، لأقل بنت لتلك الفوضى الرهيبة، لذلك الشواش غير المسبوق الذي خفتَ في غماره الكثيرُ من رهاب القول والكتابة.
أخيراً أظنّ أن جزءاً من التهديد الذي طاول السلطة السياسية، طاول أيضاً سلطة مثقّفيها؛ إذ لم يعودوا قادرين على السيطرة المُحكمة على "الصنبور" الذي كانوا يفتحونه للأصوات الجديدة، لاعتبارات غير إبداعية، كي يتيحوا للكتابة أن تعبُر من خلاله. وبكلمات أبسط، أتاح ذلك الشواش الرهيب لأحدهم أن يصل عبر مقولته التي تحمل رؤيته وأسلوبه وسياقه الثقافي والاجتماعي المحلّي، من غير أن يعبر إلزامياً بالقنوات التقليدية للثقافة السورية.
* روائي من سورية