منذ وقت مبكر في أوائل ستّينيات القرن الماضي، كتب جبرا إبراهيم جبرا مقدّمة فخمة لـ مجموعة شعرية نشرتها "المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر" في بيروت حملت عنوان "موت الآخرين". صاحب هذه المجموعة، الصادرة في نيسان 1962، هو رياض نجيب الريّس الذي بدأ رحلته في أعماق الأبدية بعيداً عن عالمنا قبل أيام قليلة. وقد ضمّت المجموعة عدداً من القصائد المكتوبة بين العامين 1957 و1961، أثناء دراسته في "كامبريدج" البريطانية.
"زحزحة الباب العملاق" هو عنوان مقدّمة جبرا التي يمكن اعتبارها شبه بيان شعري يعلن عن ولادة عصر شعري جديد تتصدّره لهجة مألوفة في بيانات حركات أدبية وفنية أوروبية شهدها النصف الأول من القرن العشرين؛ الدادائية والسيريالية والمستقبلية والبنائية... إلخ.
يبدأ "البيان" ويجري هكذا: "صرخة أو حشرجة. هكذا تنبثق القصيدة من القلب، عنيفة، مدبّبة، تحمل في رأسها صوانة الجنون والغضب والألم. لن يكون إلّا هكذا شعرُ من وقف في وجه الدنيا فرآها على غير ما كان يتوقّع، فجأة بتلقائية تتحدّى كلّ شيء حتى اللغة، فاللغة هي أيضاً غير ما كان يتوقّع. قيدٌ وبوار وموتٌ وكآبة وعفن. عيناي، عيناك، عيوننا: الرؤية مباشرة، حسية، جارحة، وهي غير ما كنا نتوقّع. فلتتساقط الألفاظ كالحصى، كالحجارة، كالعصيّ. ما وسعتنا الدنيا، ولا اللغة، ولا المدن، حيث القيد والبوار والموت والكآبة والعفن. فهلّلي يا ألفاظ، وتساقطي من الشفتين، من قمم الوعي، من أغوار اللاوعي، بدائية لا ندحة منها في وجه ما انتصب أمام هذا الفتى وهو يعارك على ضفاف الكام رؤيا بردى والفرات، وفي حانات الإنكليز يبكي حالة العرب".
نشر مجموعة وحيدة في 1962 قدّمها جبرا إبراهيم جبرا
ثم يقول: "لن أقلق. إن لم يقل رياض شعراً بعد هذا (ولكنه سيقوله مدراراً ولا ريب) فقد فتح الباب الصديء سنتمتراً آخر على رياح الغد. حفنة منّا ما كلّت في محاولة زحزحة هذا الباب العملاق الصفيق الصدئ، الذي يريد الآلاف سدّه علينا إلى الأبد. ولكنه انفتح، وسينفتح أكثر فأكثر. ورياض واحد منّا".
في هذه العبارة الأخيرة يضمّ جبرا نفسه ورياض معه إلى مجموعة من المثقّفين العرب متميّزة، وهذا هو المهمّ في نظره، جماعة تشعر بمرارة الخيبة وهي تقرأ قصائد شائعة "عدّت يومها آية التجديد والخلق"، بينما هي في الحقيقة كما يقول حرفياً "هراء وتنغيم أطفال ومبتذلات القول". يقول جبرا: "لقد أصبحنا يومئذ (وإن قلّة غريبة لم يعترف بنا أحد) جزءاً من عصر بات "الجمال" السطحي فيه شيئاً مذموماً، أقرب إلى "جمال" الزهور الشمعية المصطنعة التي لم يقبلها ذوق لا يجد متعة إلّا في توتُّر التجربة وزخم الحس والعنف والمأساة. نحن لم نعد نطلب "الجمال" من الفن، بل الشدة والكثافة والقوة، ولم يعد اللفظ الرقيق هدفاً للخلق، بل اللفظ المشحون المضطرب برموزه... بتنا نريد في الشعر الحركة، والمفاجأة، وتقويض قلاع الوهم فوق الرؤوس... حيث تغدو الألفاظ قذائف نارية تنفجر فتتناثر لآلؤها ووميضها في معان تتساقط على الذهن بعد ذلك كالمطر".
لماذا هذا التحوُّل الذي يبدو جارفاً لا يُبقي ولا يذر؟ ما الذي وقف وراء ولادة الأسلوب الجديد في الشعر العربي؟ ولماذا كان على هذه المجموعة "مجابهة الصمّ والعميّ ومجمّدي الخيال"، كما يقول بصريح العبارة؟
هنا نجد لأوّل مرّة ربطاً بين هذا العصف الفكري/ الشعري وبين مأساة فلسطين التي أنشب فيها الاستعمار الغربي مخالبه الصهيونية. يقول جبرا معلّلاً: "ليس من قبيل الصدف أن يتبلور هذا الأسلوب مع وقوع مأساتنا الرهيبة في فلسطين. فكما فتحت النكبة أعين العرب كلّهم على أشياء كثيرة، فإنها هيّأت كذلك في قلوب الشباب أرضاً لإخلاص جديد في القول، لتصميم على الكلام المباشر الخضل بالتجربة الحارّة المعقّدة... وهكذا استطاع رياض أن يكتب هذه القصائد، لأننا مهدّنا الطريق الوعر في هذه السنين".
وتُحيل كلمة "نحن" بالطبع إلى أسماء شعراء من هذه المجموعة، وخاصة توفيق صايغ الذي عرفه رياض أثناء دراسته في "كامبريدج"، وكان يقرأ له، وإليه أهدى قصيدة عنوانها "توفيق صايغ والضياء الضرير" التي ضمّتها مجموعته. ويرجع جبرا الإشارات الواردة فيها إلى كتاب "ثلاثون قصيدة" لصايغ، وقصيدة كتبها هو -أي جبرا- تحت عنوان "توفيق صايغ في أكسفورد ستريت"، نتيجة وجود رياض في خضمّ هذا كلّه؛ فهو يرى صايغ خارجاً عنه، ولكنه يوحّد مشكلته النفسية في مشكلته، وإذا قضية "توفيق صايغ في أكسفورد ستريت" تجد في نفسه امتداداً يحتويه. إنه الطالب الشاب الباحث عن ضياء، غير أنّ البحث شاق ولن يبشّر بالانتهاء إلى جواب. ويقتطف هذه السطور من قصيدته:
"آخر الليل
وحدي أعود
والقطارَ الهرم
أتلمّس طريقي
أغمض جفوني
والليل سراب
والقطار لا يصل..
رحلتي "الإثنين"
لاتنتهي..
وعهد الضياء الضرير..
لا ينتهي".
هذه هي إذاً صورة رياض الريّس الشاب في مطلع إطلالته الشعرية، شابٌّ يشارك مع قلّة في زحزحة الباب الثقيل على رياح الغد، والسفر إلى الأقاصي، ولا يستطيع جبرا أن يكتب عنه من دون أن يتحدّث بضمير الجماعة وليس الفرد. وفي هذا تأكيد على ذلك التلملم الذي فرضته على الجماعة عزلة قاسية في سفينة مبحرة على هدى خريطة بسيطة في خيالها بعد أن رفضت الخرائط المتداولة، ولم يعد لها من مرجع سوى ما تبتكره أو تعد بابتكاره.
في معركة الشعر الجديد، سيضرب كل شاعر ضربته ويركض
هذه السفينة هي التي هبط منها رياض الريّس ذات يوم بعد عودته من "كامبريدج"، لأسباب غير واضحة تماماً، والتحاقه بعمل هو ذاته يصفه بأنه أشبه بعمل فلّاح يذرّي قمحاً، ولكن قمح غيره، أي العمل الصحافي. هل كان سبب هذا التخلّي عن جماعة الشعراء التي تذري قمحها ولا تترك التذرية للآخرين، إحساساً بأن الإخفاق كان نصيب التجربة بعد أن اصطدمت سفينة الجماعة بجبل ثلجي عائم لم يكن الخلاص منه ممكناً، كما عبر يوسف الخال مثلاً، حين علّل إخفاق تجربة الجدّة الشعرية بالاصطدام بجبل اللغة الفصحى الغاطس تحت الماء؟
في آخر قصيدة في هذه المجموعة، يكتب رياض، بعد العودة من "كامبريدج" إلى أرض الوطن، هذه السطور من قصيدة العودة:
"ساعة قديمة
في جدار بيتنا المتصدّع
لا تعلن الزمان
كأن الزمان انتهى
وكأن الزمان
لم يقف
وكأن آخر ما فينا
قد مات مع الآخرين".
هذا الإحساس بنهايات الأشياء لا ببداياتها، يَشعر به قارئ هذه المجموعة من البداية إلى النهاية، ولا يترك مجالاً إلّا للإيحاء بأن الشاعر أدرك منذ البداية أنه يسعى إلى محال لا يعرف كنهه. وهذا هو ما توحي به هذه السطور أيضاً:
"سأركب قطاراً بعيداً
لا يقف أبداً
ولا يصل"
أو أدرك أنه قال كل ما عنده، كما هو إدراك ذلك الشاعر الفرنسي، آرتور رامبو، الذي هجر الشعر مبكراً قبل أن يبلغ العشرين وذهب يذرّي قمح الآخرين في أفريقيا. وعندنا أن تعبير جبرا هو الأكثر دقّة في توصيف ما فعله رياض قبل وبعد، وكأنه يتنبّأ، حين رسم له هذه الصورة الطريفة، صورة المحارب في حرب غوار يضرب ضربته ويهرب، أي أن المهمّ هنا هو مصير حركة التجدد في الشعر والحياة، وليس مصير فرد من الأفراد: "ليس مهمّاً أن يقول رياض شعراً بعد ما قاله هنا. قولته هنا أطلقها في فضائنا، فإذا كانت الأولى أو الأخيرة، لن يهمّنا إلا أنها قد أطلقت، وانتشرت شظاياها. لن أتكلّم عن الوعد بالعطاء، بالعطاء الشعري، وقد وقف في كل زاوية بالمرصاد ألف حفّاظة أصمّ وألف قاتل للشعر. ففي معركة الشعر الجديد، سيضرب كل شاعر ضربته ويركض. وستتوالى الضربات، إلى أن ينخذل قتلة الشعر الذين يريدون أن يحشروا اللغة في ثلاجة لا يضطرب فيها حي. وحينئذ سيُبعث الشعر من جديد، عابقاً بتجربة العصر، رطباً بمياه الحياة الجارية".