في كتابه "مذكّرات الرحّالة والمستشرقين عن بابل والحِلّة" الصادر حديثًا عن دار "أبجد للترجمة والنشر" العراقيّة، يُقدِّم الباحث العراقي صلاح السعيد (الحِلّة، 1945)، عرضاً لاثنين وسبعين كتاباً لرحّالة زاروا العراق وذكروا مدينتَي بابل والحِلّة التي تجاورها (مركز محافظة بابل، وسط العراق)، عبر فترات تاريخية متعدّدة.
يستعرض المؤلّف، في 361 صفحة من القطع المتوسط، كتب الرحّالة ومسير رحلاتهم ووصفهم لبابل والحِلَّة مستوقفًا عند ما يشكّ في صحَّته ومصحِّحًا ما يراه توهّمًا من قبل بعض الرحّالة في وصف المدينة وآثارها.
أغلب الرحالة الذين تضمّنهم الكتاب كانوا من أوروبا، فيما حضرت رحلات قليلة من تركيا وإيران، وخمسٍ من العرب المشهورين وهم كلّ من: ابن جبير الأندلسي، وعلي بن أبي بكر أبو الحسن الهروي، ويهوذا الحريزي الأندلسي، وياقوت الحموي، وابن بطوطة.
تبدأ الرحلة الأولى في الكتاب بالمؤرّخ الإغريقي هيرودوتس (460 ق.م)، الذي يُشكّك المؤلّف في فرضية وصوله إلى بابل، وتنتهي بمذكّرات الصحافية النرويجية هوسنا زيرشتاد التي كتبت عن بابل خلال تغطيتها الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ما بين التاريخين فترة زمنيّة طويلة غطّاها الكاتب بتنقيبه عن أخبار الرحّالة وكتبهم ومذكّراتهم التي ذكروا فيها بابل والحلّة، حيث تبدأ التواريخ تتوالى تصاعديّاً مروراً برحلاتٍ متقاربةٍ ومتباعدةٍ زمنيًّا يتتبَّع المؤلّف من خلالها أحوال المدينتين ومشاهدات الرحّالة ووصفهم إياها. كما يُلاحظ في أغلب الرحلات تقارُب الوصف العمراني للحلّة وطبيعتها الخضراء ونهرها الذي لم يغفله أحد وتغيّراتٍ في أحوال السكّان وطبيعتها الثقافية، مع تشابهٍ كبير في وضع بابل التي بقيت خرائب عند كلّ من زارها.
امتازت بعض رحلات الكتاب في أنها كُتبت بأسلوب أدبي، في حين أنّ بعضها كُتب بأسلوب وصفي فقط، وهذا يتبع طبيعة الرحّالة ومهمَّته ودافعه في الكتابة. فالرحّالة "علي بن أبي بكر أبو الحسن الهروي" والذي زار بابل في 1160 جاء نصّ رحلته مقتضبًا، إذ كان مقلًّا في تصوير مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية وانصبَّ اهتمامه بالمشاهد والمزارات الدينية.
مدينة شيَّدها نمرود وزيَّنتها سميراميس
أمّا رحلة الإيطالي الأب جوزيه دي سانتا ماريا الكرملي في عام 1658 فكانت إيفاداً من قبل الكنسية الكاثوليكيّة لزيارة الجماعات المسيحية المنتشرة في الشرق. في حين جاءت رحلاتٌ أُخرى بدعاوى عِلميّة، مثل رحلة العالم الرياضي الألماني كارستن نيبور في 1765، والذي قاد رحلة استطلاعيّة بتكليف من ملك الدنمارك فردريك الخامس لجمع المعلومات العِلميّة في مختلف المواضيع ومنها بقايا الماضي وآثاره، وقد امتازت رحلته بالدقّة العلمية في وصفه بقايا نينوى وبابل ورسم لها مخططات واستنسخ نماذج عديدة من الكتابات المسمارية.
وفي وصف مدينة الحِلّة نقرأ ما ورد في كتاب "رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك" للرحّالة العربي ابن جبير عام 1184: "هي مدينة كبيرة، عتيقة الوضع، مستطيلة، لم يبق من سورها إلّا خلق من جدار ترابي مستدير، وهي على شطّ الفرات، يتّصل بها جسر من جانبها الشرقي ويمتدُّ بطولها، ولهذه المدينة أسواقٌ حافلة، جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية، وهي كثيرة العمارة، كثيرة الخلق، متّصلة حدائق النخيل داخلاً وخارجاً، فديارها بين النخيل، وألفينا فيها جسرًا عظيمًا معقودًا على مراكب كبار متَّصلة من الشطِّ تحفّ بها من جانبيها سلاسل من حديد كالأذرع المفتولة عظمًا وضخامة تُربط إلى خشب مثبَّتة في كلا الشطّين، تدلّ على عظم المستطاع والقدرة".
ومن القرن الثاني عشر ننتقل إلى وصف القنصل والرسام الفرنسي يوجين فلاندان طريقه من بغداد إلى الحلِّة، خلال زيارته عام 1897: "في الاستراحة الإجبارية خلال الطريق رأينا منظرًا مريعًا لهبوب رياح السموم. كانت عاصفة رملية شديدة تدفع رمال الصحراء علينا وكأنّها لهيب من نار. هذه الريح تحرق كلّ شيء، لا بل تقتل أحيانًا، فالهواء الحار يهبّ قبل أن تهجم العاصفة كما لو أنَّها تريد أن تُنبِّه الأحياء بأن ينسحبوا من أمامها ومن تأثيرها المباشر لكي يسرع الناس ويبحث كل واحد منهم عن ملجأ أمين ليختبئ فيه. حتّى الحيوانات تتخذ الاحتياطات وتجد المكان الذي تلجأ إليه، وتزداد هذه الريح كلّما ارتفعت درجات الحرارة، وفي الأفق من حيث ستبدأ العاصفة يظهر شريط أحمر غامض يخفي لون السماء الأزرق ويمتدّ ويزداد عرضًا وتصعد ذيوله المذهَّبة تدريجيًّا نحو الغيوم، وإذا بكل شيء قد أصبح معتمًا ويخيّم الظلام ويغطي الصحراءَ ضوءٌ شاحب أشبه ما يكون بظلال الموت عندما تأتي هذه العاصفة بأزيزها المخيف وتنحني أمام قوّتها الجبّارة كلُّ الأشياء. الناس ينبطحون على الأرض ويغطّون أنفسهم بالعباءات، أمّا الحيوانات فترتجف وتفتح مناخيرها وتحتمي الواحدة تحت بطن الأُخرى كما لو أن شبحَ الموت قد خيَّم على المكان، فالأشجار تترنَّح والجدران تهتزّ والرمال تتطاير من كل جهات الصحراء مكونة إعصاراً قويّاً بحيث لا تستطيع الشمس اختراقه".
وفي ما يخصّ بابل وآثارها نقرأ ما كتبه الرحالة الفرنسي أدريان دوبريه خلال زيارته للمنطقة في عام 1807: "يشعر السائح أيضًا بنفس الألم والتحسّر عندما يتجوّل بين خرائب بابل، هذه العاصمة التي تباهت بها دولة الآشوريين العظيمة، والدولة الأُخرى التي لم تكن أقل شهرة منها أي دولة الميديِّين، هذه المدينة التي شيَّدها نمرود وزيَّنتها سميراميس، بدورها آلت إلى الخراب، إنَّها قرب مدينة الحِلّة على بعد اثني عشر فرسخاً شمالاً عند الفرات، هناك تجد أنقاضاً تتخلَّلها أشجار برّية تغطّي مساحة واسعة، هذه هي بابل الجبّارة وقد دفنت منذ أربعة وعشرين قرناً".
جديرٌ بالذّكر أنَّ مدينة الحِلّة هي مركز محافظة بابل، وتبعد عن العاصمة بغداد نحو 100 كم جنوباً، وعن المدينة الأثرية (آثار بابل) حوالي 7 كم، ويسكنها ما يقارب 455 ألف نسمة.
* كاتب من العراق