توقّف غازي انعيم عند مسائل أساسية تُمثِّل تجربة الفنّان التشكيلي الفلسطيني صالح المالحي (1943 - 2013)، أوّلها حالة المثقّف المُقاوم، حيث شكّلت الأحداث المصيرية، على أرض الواقع، المُحفِّز للتعبير والبحث في مشروعه الفنّي، وفي مقدّمتها النكبة واللجوء والنفي والمجازر الصهيونية، وثانيها محاولته الربط بين الفنّ والمجتمع، إذ رآهما وحدة متكاملة لا انفصال بين مكوّناتهما المُختلفة.
وفق تلك الرؤية التي حضرت جُملة واحدة، على امتداد حوالي خمسة عقود، لأبطال مُعذَّبين تُصوِّرهم لوحات الفلسطيني المُشرَّد والمقاتل، وكذلك الطبيعة في تشكُّلاتها الجمالية نباتاً وحيواناتٍ ومعمار بيوت، وصولاً إلى توظيفه التراث، وخصوصاً التطريز الفلسطيني، بوصفه شاهداً على العصر.
خُلاصات بارزة يقدّمها كتاب "صالح المالحي: حياة مؤجَّلة - قراءة في سيرته ومسيرته التشكيلية"، للناقد والتشكيلي الفلسطيني الأردني انعيم، الصادر عن "مركز جلعد الثقافي"، ويُضيء جبهات واسعة ومتعدّدة حارب فيها المالحي، الذي تمرُّ ذكرى عشر سنوات على رحيله، في الثقافة والفنّ والسياسة، وهي خلفية مُهمّة لإدراك أسباب تجاهُل المؤسّسات الثقافية الرسمية له ولأمثاله من المثقّفين.
حارَب على جبهات واسعة ومتعدّدة في الثقافة والفنّ والسياسة
يعود انعيم إلى النكبة، باعتبارها حدثاً مؤسِّساً في ذاكرة الفنّان، تركت أثرها المُبكِّر في لوحاته التي ستتحوّل إلى سجلٍّ بصري يُوثّق خصائص وتفاصيل الحياة الفلسطينية، وتركيزه على ثنائية الإنسان والأرض، وكيف اكتشف أسلوبه أثناء دراسته في عمّان بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، ثم في "معهد دافنشي" في القاهرة، حيث كان "يحاول دائماً المزاوجة بين محتوى فني مُحمَّل بأبعاد فكرية، وآخر مُحمَّل بأبعاد وجودية"، بحسب الكتاب.
في حديث لـ"العربي الجديد"، تطرّق انعيم إلى تجاهُل المالحي في كتابات المؤرِّخين والنقّاد، بالإشارة إلى أنّه "عاش في مرحلة لم يكُن فيها نقّاد، ولم تكن هناك صفحات تشكيلية، وكلّ ما يُنشر حول المعارض كان عبارة عن خبر عابر، حيث كان الصحافي هو من يقوم بتغطية أي نشاط تشكيلي، كما أنّ الصحف والمجلّات لم تكن تصل إلى البلدان العربية، وإذا وصلت تقتصر على المدن، كما لم يُتح للنقّاد الفلسطينيّين الاطّلاع على تجربته، وقد أُشير له في كتاب إسماعيل شموط 'الفن التشكيلي في الفلسطيني' الذي صدر في الكويت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي بستّة أسطر فقط".
وأضاف: "لم يكن يرغب في إقامة معارض خاصة له. وكان يفضّل المشاركة الجماعية في المعارض داخل الكويت وخارجها، سواء من خلال 'الجمعية الكويتية'، أو من خلال 'الاتحاد العام للفنّانين التشكيليين الفلسطيني'، موضّحاً أنّ هذا التجاهُل ظلّ رغم تطوّر الصحافة والإعلام، وكذلك ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب "موقفه السياسي من منظّمة التحرير الفلسطينية، ومن اتفاقيات أوسلو، حيث كان على يسار المنظّمة، وكان أيضاً لاذعاً في نقدها قولاً ورسماً".
وبيّن انعيم أنّ "هذه المواقف انعكست بشكل سلبي على تجربته الفنية، لذلك ظلّت تجربته بعيدة عن اهتمام الإعلام الفلسطيني والمؤسسات الثقافية الرسمية التي عملت على تهميش وإقصاء العديد من المُبدعِين الفلسطينيّين، ورغم ذلك واصل المالحي الرسم غير آبه بتلك المواقف، وظلّت تجربته الفلسطينية تكشف عن فنّان متميّز لم يبدّل من موقفه فربح فنّه ونفسه".
من جهة أُخرى، رأى أنّ اللوحات التي أنتجها المالحي عكست شخصيته فنّاناً عروبياً مثقّفاً ومناضلاً، ما جعل العمل الفني عنده أكثر عمقاً وثراءً، كما كان له رؤاه الفنّية التي حملها معه أينما ذهب، وهذه الرؤى تعكس ملاحم الشعب الفلسطيني، وصراعه مع العدوّ الصهيوني، وهذا يعني أنّ المسألة الوطنية كانت حاضرة في لوحاته التي لم تكن مجرّد تسجيل لحدث مصيري، بل هي ثقافة وعملية تفاعُل جدلي بينه وبين عمله الفنّي الذي يعكس شخصيته المقاوِمة، حيث حاول من خلال لوحاته تصوير المذابح التي ارتُكبت بحقّ الشعب الفلسطيني من النكبة إلى النكسة والخيام والمعارك ضدّ العدو، كما لم يغب عنه تسجيل بعض مظاهر الفلكلور الفلسطيني، كالأزياء الشعبية والأدوات التراثية، إلى جانب تناوله الأفراح والأتراح.
وتَكمُن خصوصيته في أسلوبه الفنّي الذي تلحظه العين المتذوّقة بسهولة ويُسر، بحسب انعيم، عبر "ألوان ومفردات خاصة تتميّز بها أعمالُه الفنّية المُستلهَمة من الحياة اليومية والواقع، حيث يُلاحظ فيها متانة التكوين ورصانة العمل، وقوّته، وفي الوقت نفسه مُتوافِقاً مع معادل بصري برّاق، مُعتمداً فيه على ما يمتلكه من مهارة تقنية في الخطّ واللون، وتناول المالحي مأساة الإنسان الفلسطيني، وتطلّعه إلى الحرّية، مثل بعض مجايليه الذين رسموا النكبة والتشرّد والنكسة والشوق والحنين إلى الأرض والقرية والحصاد وقطاف الزيتون، أو العودة إلى توظيف الأسطورة وإسقاطها على الواقع".
تجاهلته المؤسسات الفلسطينية بسبب معارضته منظمة التحرير
ولفت أيضاً إلى أن خصوصيته تكمن في أسلوبه، وتعبيراته العفوية، والتي كانت مُنسجمة بين حياته وفكره وواقعه، وفي المحصّلة تكشف تجربته عن محتواها العميق في الجانب الفنّي أولاً، وثانياً في خَلق الرموز الفنّية، التي تُفصح عن عذابات الإنسان الفلسطيني ومأساته، وتغاير تجربتُه تجارب جيله من الفنّانين، سواء من ناحية البحث، أو طريقة المعالجة، وكان هذا واضحاً في الأسلوب الذي انتهجه بعد معرضه الأوّل.
كما نبَّه انعيم إلى أنه "لا توجد في العالم حداثة واحدة أو طريق واحد في الحداثة، بل تتعدَّد السُّبل إليها، وهذا ما فعله صالح المالحي ابن قرية المالحة في القدس، فالإحساس بجذوره وتاريخه وحضارته هو ما استنبت منه حداثته، والحداثة عنده هي النقص الذي سعى إلى ترميمه، حيثُ يصبح بدوره عملاً يُفضي إلى سؤال، فبدأ من هنا يطوّر أسلوب تعبيره الفني ليكون حديثاً، ويأخذ من التجارب التكعيبية والتجريدية بعض المفاهيم الفنية، ويحوّرُها لتقديم المضمون الإنساني لأبناء شعبه الذين يعيشون الحياة المأساوية، حيث مزج هذه المأساوية، باللغة التعبيرية، وكذلك باللغة المجرّدة التي وضعت تجاربه أمام (الحداثة الفنية) وجهاً لوجه".
واستشهد هنا برأي للمالحي يقول فيه: "أوضح ما تكون في الفنِّ التشكيلي، مدارس تعيش وتستمرّ وأُخرى تتآكل، الحداثة هي تجاوُز الخوف من الجديد، بحيث لا يضيع المضمون، الفنان يرسم موقفاً وسياسة، والفنّان الفلسطيني والعربي له قضية قومية المضمون، الخطوط والكتل واللّون والرّموز يجب أن توظَّف توظيفاً إنسانياً نضالياً، ثم تلقائياً وحتمياً يُصبح عالمياً، تقف أمام اللّوحة، قد نسير ونتركها إلى أُخرى، ولكن بعض هذه اللّوحات يوقف حركتك ويسحبك إلى داخلها، تنفعل في ألوانها وخطوطها وهندستها، قد تشمّ تراثك من خلالها، حسب ثقافتك واستيعابك، هناك رأي مخالفٌ يُؤمِن بأنَّ أنجح اللّوحات لا تحتاج لتعبٍ في فهم رموزها".
وحول جانب آخَر من تجربته، أشار انعيم إلى أنّ "ما يجعل الفنّان فناناً هو أنه مشحون بروافد ثقافية متعدّدة، وليست مجرّد معطيات تقنية في مجال تخصُّصه، لذلك نُشاهد على مسطّحات لوحات المالحي رموزاً كثيرة مثل الحصان، والأسد، والكلب، والجمل، والحمامة، وخريطة فلسطين، وقبّة الصخرة، والبيت الفلسطيني، والبندقية، وغيرها من الرموز التي أصبحت مترسّخة في ذهن المتلقّي ثقافياً، لينطلق منها أساساً للتعبير، فغدَت لوحتُه تحمل البناء العقلاني المُتماسِك والرموز المدروسة بعناية، في الوقت الذي تُحافظ فيه على الانفعالات والعواطف".
ويُتابع: "هكذا تطوَّرت تجربة المالحي باتجاه توظيف رموز من الواقع توظيفاً تعبيرياً، حيث يدخل الرمز لتأكيد الواقع كوسيلة لا كغاية، بما يتلاءم مع روح العصر، ومع المضامين الواقعية المعاصرة. وقد لعب الرمز في لوحات المالحي دوراً مُهمّاً في إبراز الفكرة، وتعميق الواقع في آنٍ واحد، وهو هُنا يرى الرمز بصورة واقعية، ولا يغرق فيه لدرجة الغموض. تلك الرموز قدّمت أدواراً مُختلفة في لوحاته، وكأنه اختزال للكون كلّه، حيث تُصبح كلّ لوحة مسرحاً يقدّم مشهداً له أبطال، يجمعهم حوارٌ معيّن، وضمن هذا السياق يُمكن تلقّي أعماله، لا سيما أنّ لكلِّ رمز من رموزه دوره المستقلّ عن الرمز الآخر، وهو بذلك يطرح للمتلقّي ما تنضح به الحياة والتجربة".
وعن تجربة الكاريكاتير التي قدَّمها المالحي بعد عودته إلى الأردن عام 1991، بيّن انعيم أنهّا تضمّنت شخصيات كثيرة، منها شخوصٌ إيجابية، مثل "روضة" التي تمثِّل ضمير الشّعب الفلسطيني والمسحوقين في أوطانهم، كما ترمز إلى: الأمّ، والوطن، والأرض، والمخيّم، والصُّمود، والعطاء، والخصْب، والشّعب المقاوم والشّاهد على محاولات الاستسلام والانحراف، وهي فلسطين، وكلّ مخيمٍ وكلّ مدينة، وروضة أيضاً، الفقيرة، الصّابرة والمثابرة، والمناضلة والمقاتلة، والولاّدة المعطاءة، وهي أمُّ الشّهداء الذين سقطوا من أجل قضيتهم الوطنية.
وكذلك المقاتل/ الفدائي الذي يُطلق النّار دائماً على الصّهاينة، وهو المُناضِل، والمشرَّد في وطنه، والمقهور، والمغدور، والسّجين، والفقير، والبائع، والعامل، والفلّاح، والطّالب، والمُعلّم، والطّبيب، والمهندس، والمكافح والجريح والمحبُّ لوطنه.
مثّل حالة المثقّف المقاوم الذي ربط بين الفنّ والمجتمع
كما قدّم شخصيات سلبيّة مثل المهرِّج، حيث يعكس صورة الحكّام والزُّعماء على خشبة مسرح القضيّة الفلسطينية. وقد نجح الفنّان في توظيف المهرّج كنقطة من اللّون الفاتح، تدور حولها دوائر تتراوح بين الغامق والفاتح، ويُخرِج منها خطوطاً تقود العين إلى فعل المهرّج التّآمُري والمرتبط بجِهاتٍ لا ترغب للشّعب الفلسطيني بالتّحرُّر والاستقلال، وصوّر الأنظمة المُستسلمة على شكل أشخاصٍ مُترفين، مُترهّلين يلبسون ملابس المُهرّجين، وكذلك الملابس الغربية التي ترتدي أعلام الدول الاستعمارية، وأهمُّ ما يميّزُ تلك الشّخصيات الحاكمة، هو ضيق أفقها، وجفاف عواطفها، وفقدانها الكرامة، وأنها رمزٌ للجشع والطّمع، وللمتسلّقين والانتهازيّين، وفق الكاتب.
وخلافاً للمهرّج، أوضح انعيم أن بقية الشّخصيات لعبت دوراً إيجابياً ومهمّاً في تعرية الحُكّام، والمُتخاذلين، والمُنحرفين، وفي فَضْح رموز الاستسلام، ولعبت أيضاً دوراً في الصّمود، والتّصدي والتّضحية، وربَط المالحي من خلالها همّه الوطنيَّ، بالهمِّ الإنسانيِّ، كما عبّرت عن الكادحين والفقراء والمقهورين. منبَّهاً إلى أنّ رسومات التشكيلي الفلسطيني عبّرت أيضاً عن رفض قرارات القِمَم العربيّة التي تحوّلت إلى شعارات وحبرٍ على ورق، كما اعتبر قرارات الأُمم المتّحدة، ومجلس الأمن الدوليِّ، باطلة لأنّها منحازة للشّر والباطل، ووصف مجلس الأمن الدّولي، وتحديداً أميركا وفرنسا وبريطانيا، بـ"الشّركة العالميّة للاغتصاب"، والدّاعمة للكيان الصّهيوني الذي يُسيطر مع الولايات المتّحدة على الوطن العربي.
أمّا عن صورة الطّفلُ في رسومات المالحي، فيرى انعيم أنّه جزءٌ من معركة فاصلة لا تمييز فيها بين الأعمار، وهو ضحية اعتداءٍ غاشمٍ لاستنهاض روح المقاومة التي بهتت بفعل الفساد، والإفساد، وهو الشّاهد على كلِّ المجازر، والحروب، والتّهجير، والقتل، والتّدمير، ليمثّل الضّمير الحي لهذه الأمة. ويختم بالقول إن "رسومات المالحي الكاريكاتورية، والتي تمتاز بالتنقيطية بالأسود والأبيض والملوّن أحياناً، كانت سيفاً لانتصار الحقيقة، وثورة على الصّمت العربيِّ... وصرخة مستمرّة في ضمير شعبه".