شعائر الإسلام في السينما الفرنسيّة: عدساتٌ لا تكفّ عن التنميط

08 يوليو 2023
من فيلم "أثينا" الفرنسي حيث تتكرر الأخطاء التنميطية
+ الخط -

ظاهرةٌ تواترت في غير ما شريطٍ فرنسيّ طيلة العقود الثلاثة الماضية، حتى شكّلت ما يُشبه القاعدة: ارتكابُ أخطاء واضحة في تمثيل شعائر الإسلام التي يؤدّيها المسلمون. فحين تقتضي حبكةُ الشريط تصوير دَور "المُسلم"، أكان شخصيّة محوريّة أم ثانويّة، وهو بصدد تأدية طقوسه، نجده يؤوّلُها بشكلٍ لا يتوافق مع الكيفيات المعروفة، كأن يتلو القرآن في حالة السجود أو يخلط بين أوقات الرّكوع والقيام والجلوس... وهو ما يشرع للتّساؤل عن أسباب تواتر هذه الأخطاء، وربّما تعمُّد ارتكابها لأغراضٍ غير نبيلة، لكن تستحقّ التحليل. 

ولنبدأ بضرب بعض الأمثلة الموثّقة: ففي شريط "أثينا" (2022) لرومان غافراس، ثمّة مشهد يُشبه صلاة الجنازة، لكن لا صلةَ له بشعائر الجنائز الإسلاميّة المعروفة. وكذلك هو شأنُ فيلم "الإيطالي" (2010) لأوليفيه بارو، حيث كان البَطل يتظاهر بأداء الصّلاة لكن دون مراعاة حركاتها المفروضة. وفي شريط "محمد دي - بوا" (2013) لإرنستو أونا، ثمّة أيضاً مَشهد صلاة غير دقيق، ما يؤكّد أنّ هذه الظاهرة متكرّرة في السينما الفرنسية. وسيُتيح مزيدٌ من البحث الوقوف على مقاطع أُخرى، إلّا أننا نكتفي بهذه دليلاً على تواترها. 

شرائط تنظر إلى طقوسية الإسلام بعين المتخيّل الاستشراقي

تُعلَّل هذه الظاهرة أوّلاً بالنظرة الاستعلائيّة الواعية، أو غير الواعية، التي يحملُها صُنَّاع السينما الفرنسيّة عن الإسلام وشعائره وتقاليده. فمن احتقارِهم الضمني لها، لا تَراهم يبذلون أدنى مجهودٍ في التحقُّق من مدى مُطابقة المَشاهد المصوَّرة مع المعايير الدينيّة في كيفية الصّلاة مثلاً، حيث يؤدّي الصَّلَف اللاشعوري إلى الاكتفاء بما يعرفه الجميع عن الشعائر دون التأكُّد من تفاصيلها وطُرق أدائها وآدابها، كأنّ الغرض هو فقط إقحام مشهد الشعائر ضمن تطوّر الوحدات السرديّة والبَصريّة، وليس حقيقته الروحيّة. 

وأما التعليل الثاني، وهو أخفى، فيعتبر هذه الأخطاء شأناً مقصوداً، غايته إظهار هذه الشخصيات، بمن فيها "الأبطال"، في صورة "متديّنين" وحتى "متطرّفين" لا يُتقنون قواعد دينهم ولا يعرفون شروطَها، فهم يؤدّونها كما اتّفق، ربما في إشارة من مُخرجي هذه الأشرطة إلى أن جلَّ المتديّنين، في الفضاء الفرنسي، لا يعرفون آداب دينهم ويكتفون بتطبيقٍ جاهلٍ لها، وذلك في تشويه مقصود وإضافي لشخصية "المُسلم"، مع أنها جديدة طارئة في السينما الفرنسيّة، بعد أن ارتفعت مشاركة الممثّلين من أصول عربية، وتغيّر الواقع الديمغرافيّ والفنّي في المجتمع الفرنسي.
 
وربما يكون السبب اقتصاديّاً أيضاً، ذلك أنّ انتداب مستشارٍ متخصص قد يكلّف مبالغَ ماليّة ضخمة، لا يكون المُنتِج قد أدرجها في "ميزانية الشريط" لأسباب تتعلّق بالخطّة المالية، ولا سيما أنّ لقطات تلك الشعائر قصيرة، ويُعتقَد أنّها لا تستحقّ مثل تلك المُوازنات والتضحيات.

استحضار تقريبيّ يقوم على تلفيق سريع للصور النمطية

إلّا أنّ السبب الأعمق كامنٌ في المتخيّل الاستشراقيّ الذي لا يرى في أعمال التعبّد وسيلةً للانعتاق الروحيّ، فهو غالباً ما يجعل منها رديفاً للظلاميّة والكبت والخرافات المُقترنة بلبس السّواد والانغلاق. ولا يلائم مُخرجي هذه الأشرطة أن يكون المسلم فيها شخصاً مندمجاً في النسيج الاجتماعيّ، غير حامل لأيّة سمة تمييزية ظاهرة، مثل اللحية والقميص المتدليّ. فالمسألة كامنة في الصورة النّمطية التي تُعزّز الإقصاء المُمارَس على المسلمين. 

وهكذا، تؤول كلُّ هذه التعليلات إلى عدم الاكتراث وقلّة المبالاة بِبُعدٍ تعتبره الحساسيّة الغربية هامشيّاً ثانويّاً، ضمن وعيٍ علمانيّ فَقَدَ علاقته بالطقوس الدينية، وهذا الوعي، بعبارة غولديي désenchanté، أي: مَنزوع البُعد السحريّ، بحسب ترجمة هاشم صالح للعبارة، في استمرار للوَعي المُعَلمن الذي لا يكترث إلّا قليلاً بالشعائر، ويعتبرها أمراً يخصُّ الضمير الشخصيّ ولا داعي لإظهاره عبر الحركات الخارجية، وهو ما يختلف تماماً مع تصوُّر مفهوم الشعائر في الإسلام. 

ولئِن ركّزنا هنا على ثيمة العبادات وما يعتورها من الأخطاء، فإنّ هذه الأخيرة تشمل أيضاً اللهجات العربيّة التي تجري على ألسنة شخصيات الأفلام: فكم من دَورٍ مصريّ، مثلاً، يُؤَدَّى بلهجة جزائريّة، والعكس صحيح. وكم من فردٍ من عامّة الناس تجري على لسانه كلمات بالفُصحى، فضلاً عن أخطاء أُخرى في اختيار الملابس والعلامات الدينيّة كالعمائم والعباءات وألوانها وغيرها من العناصر الخاضعة لنظامٍ سيميائيٍّ مُعقّد. وكلّ ذلك دليل على استحضار تقريبيّ غير دقيق لواقع العربي - المُسلم، ناتج عن متخيَّل مغلوط وصور نمطيّة رآها المخرج أو المؤلِّف في وسائل الإعلام، دون أن يبذل عناء التثبُّت من المُعطيات لأنّها تخصّ الآخر البعيد، "الإسلام ذلك المجهول"، كما جاء في عنوان كتابٍ فرنسي شهير، كتبه روجي كاراتيني عام 2001. 

هذا، وليست مراقبة مدى مطابقة الاقتضاء الفنّي لصحة الشَّعائر الدينيّة من مهامّ الناقد، كما ليس من أدواره أن يكون حارساً لتوافُق الأداء الشعائري مع المذاهب الفقهيّة، لا سيّما إذا كانت مخالفتُها مقصودةً وجزءاً من الحبكة الفنيّة للشريط. لكن ما أدّى بنا إلى إثارة هذا الموضوع هو تواتر الأخطاء، حتى كادت تُشكّل ظاهرة مَرضية لها آثارٌ في نمط تلقّي الجمهور لصورة "المسلم" التي تظلّ صورة سلبيّة للغاية، ولا تساهم في تهدئة الأجواء بين مختلف فئات المجتمع الفرنسيّ، الذي بات فيه المسلمون وطقوسهم جزءاً لا يتجزّأ منه، وليسوا مجرّد "مُهاجرين" سيعودون يوماً إلى أوطانهم. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مُقيم في باريس

المساهمون