عن عمر يناهز الواحد والثمانين عاماً، رحل عن عالمنا هذا الشهر سيكستو رودريغيز Sixto Rodríguez، المغني وكاتب الأغاني الأميركي الذي ألهَمت أغانيه حركة المقاومة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومحور الفيلم الوثائقي "البحث عن شوغرمان"، الحائز "جائزة الأوسكار"، حيث تدهورت حالته الصحية كثيراً في الأشهر الأخيرة، بعد إصابته بسكتة دماغية قبل عام.
"سوف يسقط هذا النظام قريباً، على وقع أغنية شابّة غضوب. تلك حقيقة ملموسة وباردة". هكذا غنّى سيكستو رودريغيز خلال سنوات "حرب فيتنام"، معبّراً عن اعتقاده بحتميّة التغيير، في أغنيته التي تحمل عنوان "هذه ليست أغنية، إنّها صرخة، أو: ذا إيستابليشمِنت بلوز". هذا التغيير لم يحصل وقتها، لكنَّ المغنّي يقول في آخر الأغنية: "ذلك لأنَّك لست مثل البقيّة".
في السبعينيات، جالَ رودريغيز شوارع ديترويت، مثل ثائرٍ حقيقي، لابساً قبّعته وحاملاً غيتاره، وغنّى لجماهير الحانات المليئة بالدّخان والتي تكاد أن تكون فارغةً أبداً، مُستهلاً أداءه بقوله: "لا تنظروا إليّ، اسمعوا ماذا أقول"، ليعزف بعدها على الغيتار ويصدح بأغانٍ شجيّة عن المشرّدين، والكادحين، والمُهمَّشين والمقموعين كلّهم.
كانت حياته سلسلة من الاختفاءات والظهورات الفنية
ولد رودريغيز في العاشر من تموز عام 1942، في ديترويت، ولاية ميشيغان، وكان الابن السادس (سيكستو) لمهاجرين مكسيكيين. بدأ مسيرته الفنية عام 1967، عندما أصدر أغنية "سأنْسَلُّ بعيداً". بعدها بثلاث سنوات، تعاقد مع شركة "سوسيكس ريكوردز" وسجّل ألبومَين؛ هما: "حقيقة باردة" (1970) و"من الواقع" (1971). لَمْ يَبِع كِلا الألبومَين أكثر من بضع نسخ في الولايات المتحدة الأميركية، وألغَت الشركة عقدها معه قبل أسبوعين من عيد ميلاده، لتغلق الشركة أبوابها بعد أربع سنوات.
تخلّى رودريغيز عن العمل في الموسيقى من أجل البقاء على قيد الحياة، فعَمِل في مجال البناء وخطوط الإنتاج، واختفى عن أعين الجماهير. انتشرت وقتها شائعات عنه بأنه انتحر مُطلقاً النار على نفسه على خشبة المسرح، في حين أخبرت روايات أخرى أنّه مات بسبب جرعة زائدة من المخدرات بعد إصدار ألبوم "من الواقع". غير أن ذلك كلّه تغيّر عندما دُعي رودريغيز لإقامة حفل في أستراليا عام 1979، احتفاءً بإعادة إصدار ألبومَيه؛ ثم عاد ليؤدي هناك، مرّة ثانية، عام 1981.
بعد عقدٍ من الزمن، وبمساعدة الإنترنت، اكتشف رودريغيز أنَّ موسيقاه كانت ذات أثر هائل في جنوب أفريقيا، وأنّ الشباب هناك اعتنقوا تأمّلاته الوجودية المشحونة بـ"السَّايكيديليا"، كأناشيد ضد حكومة الفصل العنصري. هكذا تم الاحتفاء به كشخصية أسطورية. ورغم تقاعده عن الجولات الموسيقية، ألا أنه أدّى بعض الحفلات في جنوب أفريقيا عام 1988، وتلقّى استجابة من قبل أهالي البلاد.
لاحقاً قام فنانون وفنانات مثل الأميركي مودي ووترز Muddy Waters، والأيرلندي ديفيد هولمز David Holmes ومغني الرّاب الأميركي ناس، باكتشاف موسيقاه وإعادة إحيائها. وفي هذا الإطار، قال عنه ستيفن سيغرمان، صاحب متجر تسجيلات في مدينة كيب تاون الجنوب أفريقية: "ما يزال غامضاً كيف وصلت النسخة الأولى من ألبوم "حقيقة باردة" إلى جنوب إفريقيا، لكنه انتشر بسرعة كبيرة. بالنسبة للكثيرين في البلاد، كان الألبوم الموسيقى التصويرية لحياتنا".
هذا الاهتمام دفعه إلى إعادة إصدار الألبومات وبدء جولة حول العالم. توِّجت هذه النهضة بحصول الفيلم الوثائقي "البحث عن شوغرمان" على جائزة الأوسكار عام 2012. يصوّر الفيلم رحلة اثنين من مُعجبي رودريغيز؛ وهما الصحافيان المختصان في الموسيقى كريج بارثولوميو وستيفن "شوغر" سيجرمان، من كيب تاون، يريدان معرفة ماذا حدث لمغنّيهما المفضّل.
عندما التقى المغنّي المعروف ديف ماثيوز Dave Matthews، المولود في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، مع رودريغيز قبل أن يقيم إحدى حفلاته عام 2022، أشاد به على المسرح وأخبر الجمهور أنّ رودريغيز كان أحد أبطاله عندما كبر في جنوب أفريقيا.
ترك رودريغيز إرثاً غنائياً مكوناً من ألبومي استوديو، وثلاثة ألبومات تسجيلات حيّة فقط، إضافة إلى قصة حياته المذهلة والمُلهمة، وصوته وكلماته التي لا تُنسى.
*كاتب من البلقان مقيم في الولايات المتحدة