ليس الهدف من تقديم مختارات من الشعر الهولندي في القرن التاسع عشر إعطاء صورة شاملة ومكتملة، ذلك أنَّ مهمةً كهذه تتطلّب جهداً مؤسّساتيّاً، نظراً لاتساع الخريطة الشعرية وتنوّع تياراتها ومدارسها من جهة، وللّغة المعتمدة في مُنجز شعراء هذه المرحلة، والتي تتراوح بين كلاسيكية وكلاسيكية مُحدثة.
ولكن ما دفعنا إلى الفكرة (المشروع) هو التعريف بأصوات أساسية من المشهد الشعري الهولندي في مرحلة كانت بمثابة منصّة أساسية مهّدت لانطلاق الحداثة الشعرية الهولندية، والتي تبلورت على نحوٍ جليٍّ في جماعة الخمسينيين.
على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، شهدت هولندا إقامة المهرجانات والمناسبات الشعرية التي ضمّت شعراء عرباً وهولنديين، مثل "مهرجان روتردام الدولي للشعر" و"مهرجان الشعر العربي الهولندي" عام 2002، و"مهرجان ميزوبوتاميا"، وقد لاحظنا غياب حلقة أساسية تتمثّل بالبحث عن الروافد التي صبّت في أرضية الشعر الهولندي، وساهمت في حصوله على مكاسب في غاية الأهمية في حيث انفتاحه على الحياة العصرية، إذ لم تعد القصيدة متمحورةً حول الموروثات المفروضة والتي حرص عدد كبير من شعراء القرن التاسع عشر، خصوصاً في المنتصف الأول منه، على الدوران حولها واستحضارها، وإن في السطر الأخير من القصيدة: "الله، أورانيا (العائلة المالكة)، الوطن".
وعلى غرار التطوّرات العظيمة التي شهدها القرن التاسع عشر، عرفت القصيدة الهولندية تطوراً كبيراً للغاية، والعامل الأساس في هذا التغيير هو الانفتاح على شعريات أخرى قدمت منظوراً آخر للحياة خارج إطار منظور اللاهوت الديني.
حركة الثمانينيين (1880 - 1890):
حظي العقدُ الثامن من القرن التاسع عشر بأهميةٍ بالغة في الدراسات الأدبية، على اعتباره المُنطلق الأساس للحداثة الشعرية، وثمّة نقاد يعتبرون الأسماء البارزة في هذا العقد من أبرز الروّاد الأساسيين للأدب الهولندي الحديث. ففي هذا العقد، تحديداً، تمكّن الشعر الهولندي من إحداث قطيعة أساسيّة مع القيم والأفكار السائدة في الأدب الهولندي، والتي استندت في جانبٍ كبيرٍ منها إلى أدب العصور الوسطى، حيث كان الأدب مخصّصاً بشكل أساسي للنبلاء. وهذا هو السبب في أن الكتلة الأولى من أدب العصور الوسطى تُسمّى أيضاً الأدب النبيل. أمّا الأدب البرجوازي الذي انتعش في بدايات القرن الرابع عشر ميلادي، فقد كان موجّهاً بشكلٍ أكبر إلى البرجوازية، وأدب بعد نهاية العصور الوسطى، حيث تبّنت هولندا في فنونها وآدابها الاتجاه الإيطالي، ممثلاً بعصر النهضة.
انفتحت القصيدة الهولندية في القرن 19 على شعريات أخرى
سرعان ما استلهمت الآداب والفنون في هولندا من مدارس عديدة بدءاً من التنوير الفرنسي والمدرسة الرومانسية التي تركت هامشاً بسيطاً لنقد المجتمع، ضمن هذا السياق التاريخي، أطلق الثمانينيون مشروعهم في تحديث الشعر الهولندي برؤية جديدة للأدب. وفقاً لهذه الحركة، يجب أن يكون للفن هدف واحد فقط: الفن نفسه، أي ليس للفن أي غرضٍ سوى كونه فناً. كان من المهم أيضاً تقديم كل شيء بموضوعيّة، حتى لو كانت هذه الصورة الموضوعية قائمة. أثّرت "حركة الثمانينيين" بشكل ثوريٍّ في الكتابة، كما أنشأت مجلة جديدة تسمى "الدليل الجديد" De Nieuwe Gids، وشكّلت ثورةً في الأدب الهولندي، الذي تجاهل أي هدف أخلاقيّ حينها.
كان على الأدب الجديد أيضاً أن يجد أشكالاً جديدة. هكذا تمَّ إلغاء الراوي، المؤلّف العارف بكل شيء في الرواية باعتبار أن الرواية يجب أن تكون محايدة ولا تتخذ مواقف مُسبقة. بحثَ الكتّاب أيضاً عن الابتكار في اللغة، ولم يكن إدخال اللغة العامية والبذيئة كافياً، بل كان لا بدَّ أيضاً من إنشاء لغة يمكنها التعامل مع الفروق الدقيقة في الانطباعات، فالأدب هو التعبير الأكثر شخصيّة عن المشاعر الفردية. ومن أهم المبادئ التي طرحها الثمانينيون: فكرة الفن للفن pour l'art، والتقاط حالات الروح في الشعر، وتوحيد الشكل والمحتوى، والفن أهم من الدين، وفردانية الفنان، ودور الفنان كمسيحٍ جديد. هكذا لم يعد للأدب مع الثمانينيين أغراض أخلاقية، بل كان متعلّقاً بالفن نفسه، وكان الجمال هو المثل الأعلى الجديد.
كانت لهذا كله دلالة كبيرة على حيوية القرن التاسع عشر، ذلك أنَّ الأسُس النظرية والنماذج الشعرية التي قدّمها الثمانينيون سرعان ما أعقبتها تيارات جديدة برؤى ونماذج مغايرة، خصوصاً مع جيل التسيعينات أو التسعينيون، على سبيل المثال، الذين قدّموا أفكاراً مهمّة في الشعر تختلف عمّا طرحه الثمانينيون، حيث اعتبروا أنَّ الأدب يجب أن يكون فنّاً مجتمعياً حقاً، وبالتالي على الشاعر أن يحاول التعبير عن المثل العليا لمجموعة كبيرة من الأفراد. في مقاله المهم "نقد الحركة الأدبية في الثمانينات من القرن التاسع عشر في هولندا" انتقد الشاعر هيرمان جورتير Herman Gorter فردانية أدباء تلك الحقبة، وانطلاقاً من قناعاته الماركسية أكّد أنَّ الأدب يتبع الظروف الاقتصادية، وأنَّ الوضع الاقتصادي في المجتمع له الأثر البالغ على الفكر الإنساني.
وفي سياق مقالته، تهجّم جورتير على عددٍ من شعراء الثمانينيات، مُتّهماً إياهم بتغييب العامل الاقتصادي، وطرح أفكار خاطئة حول القضايا الأدبية. ففي نظره لم يعد الجمال قيمة وضعية وجمالية فقط، بل إن الجمال، في نظر الأدباء غير الملمين بالاقتصاديات، ينفصل عن المجتمع والقيم الأخلاقية كما كان التفكير بشأنها خلال الثمانينات من القرن التاسع عشر. هكذا رأى جورتير أن الجمال صيغة من صلب مسألة التغيير والتطوّر الاجتماعيين، وبالتالي اعتبر جماعة الثمانينيين آخر مرحلة من تطوّر الأدب البرجوازي.
كانت ثورة الثمانينيين الأكثر تأثيراً في الشعر الهولندي
ورغم هجومه الشديد على حركة الثمانينيين، يتّفق نُقاد الأدب الهولندي على أن جورتير كان الشاعر الأكثر موهبةً في هذه الحركة، رغم هجومه عليها وخروجه عن مبادئها، وأنَّ انتقاده للبعد الفردي في قصائدهم يتناقض مع الذاتية العالية التي اتسمت بها قصائده في ديوان أشعاره الصادر عام 1903.
ضمن هذا الإطار، كانت الثورة التي أحدثها الثمانينيون الأكثر تأثيراً في الشعر الهولندي، وهذا ما يتّضح جلياً في التأثير الذي تركتُه على الحركات الشعرية اللاحقة، بما فيها تيار الطليعة التاريخية والحداثة (1916 - 1930)، والذي يشمل جميع الحركات الجديدة في الأدب الهولندي، التي نشأت في أجواء الحرب العالمية الأولى.
هكذا شهد القرن التاسع عشر تطوّر القصيدة الهولندية من القصيدة البرجوازية والخيرية في عقوده الأولى إلى القصيدة الحداثية المنفتحة على الشعريات الأخرى، بما فيها شعر الشرق كما يتجلى ذلك بشكل واضحٍ في قصائد الشاعر ليوبولد والشاعر بلوم. إنَّ تقديم صورة كاملة للقارئ العربي عن الشعر الهولندي يتطلّب أنطولوجيا شاملة على غرار الأنطولوجيات الهولندية التي خاضت في هذا المجال، لذا نأمل في هذا الكتاب تقديم لمحة موجزة عن الشعر الهولندي في القرن التاسع عشر عبر قصائد بعض أهمّ ممثليه، ونأمل أن نحظى بفرصة أخرى في تكملة هذا المشروع بأجزاء أخرى.
* شاعر ومترجم عراقي مقيم في هولندا