سليم النفّار.. "حارس الانتظار" شهيداً في غزّة

12 ديسمبر 2023
سليم النفّار في حفل إطلاق مجموعته "حارس الانتظار"
+ الخط -

في سيرته الذاتية "ذاكرة ضيّقة على الفرح" (2020)، يروي الشاعر الفلسطيني سليم النفّار حال الطفولة الفلسطينية التي عاشها، مُنتقلاً من مخيّم الشاطئ في غزة، مسقط رأسه (بعد نزوح عائلته من يافا بعد نكبة 1948)، إلى الأردن عام 1968، وهو بعدُ لم يتجاوز الخمس سنوات، بصُحبة أُمّه وأخيه لملاقاة والده الذي أبعده الاحتلال عن البلاد، قبل أن يعود بعد قرابة عقدين ونصف إلى غزة.

فُجعت الأوساط الثقافية في فلسطين بصاحب "بياض الأسئلة" (2001)، الذي قتلته "إسرائيل" في السابع من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بغارة جوّية استهدفت منزله في حيّ النصر بقطاع غزة، مع زوجته وبناته وابنه الوحيد مصطفى وأخته وزوجها وأولادها، في مجزرة تستكمل مسلسل جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحقّ الشعب الفلسطيني، منذ أكثر من شهرين على مرأى ومسمع العالم. ولم يتأكّد خبر استشهاد الشاعر لأيام عدّة، في ظلّ ما يعيشه القطاع من صعوبة في انتشال الشهداء والمفقودين من تحت الأنقاض، وصعوبة الاتصال بطبيعة الحال. يتأكد الخبر فيحضر في ذاكرتنا مقطع من قصيدة له: "أيا صوتَنا الصَّاعدُ في رحيلِ النجومِ: دلَّنا كيفَ نأوي إلى نجمنا، حيثُ الفضاءُ الذي لا يزولُ/ هنا يا صاحبي: أرهقتنا شعاراتٌ، بها نزقٌ لفعلٍ لا يدومُ/ فهلْ مزحةُ التاريخ كنَّا، أمْ تُرانا في ظلامِ الوقتِ ذُبنا؟...". 

ترك لنا صاحب "ذاكرة ضيّقة على الفرح" أسئلته الحارقة 

يصفُ النفّار (1963) علاقتَه بالشعر، في مقال له بعنوان "صيدٌ لا يُشبِع"، فلا يجد بُدّاً من العودة إلى الطفولة واستعاراتها، ونراه يُقارب تجربته من باب عبارة لأحد أصدقائه "هذا صيدٌ لا يُشبِع"، قالها للنفّار حين رآه يُلحّ على اصطياد سمكة في أحد الأنهُر المُحاذية للمخيّم، فيكتب: "ربّما ذلك الإصرار وتلك الهواية التي لا تُشبِع، تُشبه ما أسعى إليه في بناء قصيدة، دائماً أشعر بعدها أنّ القصيدة الأشهى لم أصطدْها بعد".

لكنّ الشعر سيدفع هذا المثَل الحسِّي إلى غاية أبعد في التجريد، وسيُشكّل "الصيد الذي لا يُشبِع" حالة وعيٍ أعمق عند النفّار، سواء على مستوى الرحلة مع اللُّغة، خاصة بعد مغادرته الأردن إلى سورية، حيث نال إجازة في الأدب العربي من "جامعة تشرين" بمدينة اللاذقية، ومن ثمّ تأسيسه، هُناك، "ملتقى أبو سلمى السنوي للمُبدعين الشباب"، عام 1986، أو على صعيد الانخراط في التجربة السياسية، بدءاً من تأثُّره المباشر باستشهاد والده الذي كان منخرطاً في العمل الفدائي الفلسطيني، مروراً بنشاط الشاعر نفسه في صفوف "منظّمة التحرير"، خلال سنواته السوريّة، حتى عودته إلى غزة عام 1994.

في توقيع حارس الانتظار - القسم الثقافي
سليم النفّار موقّعاً "حارس الانتظار"

بدأت تجربة النفّار الشعرية تَشُقُّ طريقها مطلع الثمانينيات، حيث لعب الخروج الفلسطيني من لُبنان، عام 1982، دوراً صادماً، فنشَر أُولى قصائده في صُحف فلسطينية تصدرُ بين دمشق واللاذقية، مُتأثّراً في أسلوبه بالقصيدة العربية الكلاسيكية التي تحرص على استحضار صفات الكبرياء والعنفوان لحظة الأزمات. لكنّ تلك المرحلة وما تلاها من كتاباتٍ، كانت العتبة الأولى التي دفعته للانفتاح أكثر على أسماء شعراء مُعاصرين، مثل خالد أبو خالد وجليل حيدر وأدونيس ومحمود درويش ومعين بسيسو، ولقراءة ترجمات شعراء عالميين مثل إليوت وأوكتافيو باث.

حارس الانتظار - للقسم الثقافي

"تداعيات على شرفة الماء" عنوان المجموعة الأُولى التي صدرت للشاعر الشهيد، عام 1996، ثم تلتها بعد ذلك بعام، مجموعةٌ أُخرى بعنوان "سُورٌ لها"، واللّافت أنهما صدرتا بعد عودته إلى غزة، إذ انتظرت هذه التجربة أعواماً بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حتى قالت كلمتها الجديدة والمختلفة عمّا يصبغ البدايات من حماسة في الموضوع والأسلوب. 

لخّص رؤيته الشعرية بأنّه لم يصطد بعدُ قصيدته الأشهى

أما مجموعاته الأربع الأخرى، وهي: "بياض الأسئلة"، و"شُرَف على ذلك المطر"، و"حالة وطن وقصائد أُخرى"، و"حارس الانتظار"، فصدرت في أعوام متفرِّقة بين 2001 و2021. في حين أن أعماله النثرية قد تأخّر صدورُها مقارنة بالشعر، حتى العقد الثاني من الألفيّة، وتوزّعت بين كتاب نثري: "غزة 2014"، والسيرة الذاتية: "ذاكرة ضيّقة على الفرح" (2020)، والرواية: "فوانيس المُخيّم" (2018)، و"ليالي اللاذقية" (2022).

فوانيس - القسم الثقافي

وإلى جانب أعماله الإبداعية، ساهم النفّار، أيضاً، بتأسيس "جمعيّة الإبداع الثقافي" في غزة عام 1997، كما عَمل مديراً في وزارة الثقافة الفلسطينية، ومُحرِّراً أدبياً في مجلّات عدّة مثل "نضال الشعب"، و"مجلّة الأفق".

بين يافا المُحتلّة، مدينة العائلة الأصلية، ومخيّم الرمل في اللاذقية، ومخيّم الشاطئ في غزّة، تقلّبت عوالم الشاعر الشهيد، نقرأ من قصائده الأخيرة:

"هلْ تُراهُ... ناسياً أصلَهُ؛
أو حدودَ المقامِ المُزنَّرْ... بالخلايا
في نَقِيِّ العظامِ
في صدورِ الغمامِ العميمْ؟
صارخاً كان النَّهارُ
لم يُزاولْ مهنةً غيرَ السّطوعْ
كلَّما اشتدَّ الظلامُ
حاولَ الرَّاجفونَ بهِ حيلةً،
لكنَّهُ:
يقظٌ مثلَ خفقِ القلوبْ
لا يُغادرْ حِمىً في الضلوعْ".

الطريق إلى غزّة وبحرها ظلّت واضحة عند سليم النفّار، كما أنّ الخروج منها بقي عصيّاً، حتى مع اشتداد القصف الصهيوني الهمجي على المدينة، إذ كتب عدد من أصدقائه عبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، عن إصراره، خلال الشهرين الماضيين، على البقاء في منزله بحيّ النصر، مُؤكّداً لهم أن لا مكان آمن في غزة حتى يخرجُ إليه.

ومن نصوص الشهيد الأخيرة النثرية التي نشرها صيف هذا العام، نقرأ: "ثمّةَ طريقٌ لا تفتحُ مداخلها أمامكَ، كأنكَ لم ترَ قبلاً جوانبها، هوامشها المُزنَّرة بالمفاجآت الجميلة، وإنْ جاءت مُتأخّرة، فليسَ ثمّةَ تأخير على بندول القلب. ثمّةَ مشاغلٌ في الطريقِ، تحجبُ عن ناظريكَ بريقَ الكرز، وصهيل الكمّثرى، ربّما غيمةٌ عابرة تحجب كلَّ ذلك ولكن، ثمّةَ انفجاراتٌ دون إنذار تفتحُ الرؤية، ومخيال اللحظة المُشتهاة".
 

المساهمون