اختُتمت أوّل من أمس الإثنين، في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، ندوة "الاستعمار الاستيطاني والأصلانية والصراع الفلسطيني ضدّ الصهيونية"، التي نظّمها، على مدى ثلاثة أيّام، كلّ من دورية "عُمران" للعلوم الاجتماعية و"معهد الدوحة للدراسات العليا".
واختير الباحث الأوغندي محمود ممداني، أستاذ كرسيّ "هربرت ليمان للحُكم" في "جامعة كولومبيا" بالولايات المتحدة، لإلقاء الكلمة الختامية، التي قال فيها إن الشباب المشاركين في الندوة ركّزوا على قضايا استقُوها من رسائل دكتوراه مكثّفة في محاولة استكشاف كلّ العالَم في قطرة ماء واحدة، على حدّ قوله. أمّا "الشيوخ من أمثالي، فقد اختاروا المقارنة في النظر إلى العالَم الأوسع، لكنّنا كلّنا واجهنا تحدّياً مشتركاً، هو: كيف نفكّر بفلسطين وكيف نؤطّرها، وماذا تعني فلسطين بالنسبة إلينا؟ أين نموضعها في حياتنا وفي عالمنا الذي نعيش فيه؟".
مواجهة السرديّة الاستعمارية
وكان سؤال "أين فلسطين؟" مطروحاً قبل الكلمة الختامية لممداني، وذلك في الجلسة الأخيرة التي حملت عنوان: "مواجهة السرديّات الاستعمارية: أسئلة الأصلانية والمحلّانية". الضيف المتحدّث عبر الفيديو كان حميد دباشي، أستاذ "كرسيّ هاكوب كيفوركيان" بقسم الدراسات الإيرانية والأدب المقارن في "جامعة كولومبيا" بالولايات المتحدة. وليس العالَم الفيزيائي المعنيَّ الوحيدَ بسؤال "أين فلسطين في العالم؟"، بل والعوالم الأخلاقية والخيالية، تلك العوالم القويّة سياسياً التي جرى تمييزها بالعوالم الاستعمارية، أو ما بعد الاستعمارية، أو حتى العوالم التي فكّكت الاستعمار.
قال دباشي: "عندما نتحدث عن ’الأدب العالمي‘ أو ’السينما العالمية‘، فهل في هذه العوالم التي تحظى بتنظيرات عالية مكان للأدب الفلسطيني أو السينما الفلسطينية من دون أن تناقض نفسها ولا أن تتعامى عن حقيقة فلسطين؟". وواصل "إذا لم يكن فيها مكان لفلسطين، فهل ثمة مشروعية لهذه التصنيفات التي لا تمثّل أمّةً أو شعباً، أو فضاءً مشحوناً بالعواطف، يقع وطنُه تحت احتلال مستعمر استيطاني؟".
بالنسبة إليه، أصبحت فلسطين استعارةً مثاليّة - وهذه هي قوّتها ومأزقها في آن -، إذ جعل منها الآن درب النضال المستمرّ لأكثر من قرن مستودعاً لجميع شروط النضال العالميّ المناهض للاستعمار وآفاق تفكيك نهائيّ وصارم للاستعمار، معتبراً أنه على عاتق فلسطين يقع اليوم العبء التاريخي العالمي.
تحايُل الاستعمار الاستيطاني
ميكايلا سحار، المحاضِرة في تاريخ الأفكار بكلّية ترينتي في "جامعة ملبورن"، قدّمت في الجلسة الختامية مشاركتها بعنوان "عودة المحلّاني: الأصلانية والاستعمار الاستيطاني والمفارقات المتعدّدة في السرديات التذكارية الإسرائيلية - الأسترالية لحملة فلسطين". وفيها قالت إن "إسرائيل"، في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، سعت إلى أن تضع نفسها في صفّ عدد من النضالات الأصلانية، من أجل التحايل على طبيعتها الاستعمارية - الاستيطانية، ثمّ من أجل محاولة موضعة مشروع الدولة الصهيونية بوصفه مشروعاً أصلانياً.
وفحصت دراسة سحار أحد الأمثلة على هذه النزعة، تحديداً في المناسبات التذكارية التي تتعلّق بمئوية "حملة فلسطين"، وهي حملة عسكرية خاضها جنود أستراليون في الحرب العالمية الأولى ضدّ الدولة العثمانية. وجادلت الدراسة بأن السياسات الإسرائيلية الرسمية لإحياء هذه الحملة، والدور الحديث والمركزيّ للجنود الأصلانيين فيها، كانت استراتيجية خبيثة للدولة الإسرائيلية، وُضعت لإلغاء سردية الشعب الفلسطيني وأصلانيته في أرضه.
رهاب الإسلام ومعاداة السامية
وكانت الفترة الصباحية من الندوة قد افتُتحت بمحاضرة "الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية والصهيونية والاستعمار الاستيطاني"، من تقديم لورينزو فيراسيني، الأستاذ المشارك بقسم العلوم الاجتماعية في "جامعة سوينبرن" للتكنولوجيا، بأستراليا. بدأ فيراسيني محاضرته مستشهداً بمواطِنه، الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي قال إنه لم يكن يحبّ الفاشية، لكنه فكّر مليّاً فيها وبكيفية استحداث الظروف بغية اجتيازها والتخلّص منها. وذهبت محاضرة الباحث إلى درْس علاقة الإسلاموفوبيا بمعاداة السامية في سياق التحوّل الأخير الذي شهدته أوساط اليمين الأوروبي الراديكالي نحو مواقف مؤيّدة لـ"إسرائيل"، مبتعداً بذلك عن معاداته التقليدية للسامية.
وقال إن ثمة دوراً تأسيسياً تؤدّيه المخيالات الاستعمارية والاستعمارية الاستيطانية في تغذية العلاقات الدينامية في هذا النوع من ظواهر الرهاب، ومن ثمّ خلصَ إلى أن تعبيرات الإسلاموفوبيا الحالية يمكن اعتبارها معاداةَ سامية بديلةً. ولاحظ فيراسيني أن القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين شهدا "المسألة اليهودية" والصهيونية، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، ها هو يتميز بـ"القضية الفلسطينية"والإسلاموفوبيا. وساق المحاضر نماذج عديدة كان فيها اليمينيون في الغرب ينأون عن معاداة السامية ويتّجهون نحو الإسلاموفوبيا من خلال اعتناق الصهيونية.
أفكار في الحياة العادية
الجزء الثاني من الندوة، والذي أُقيم ظهيرةَ الإثنين، تحت عنوان "تفكيك الاستعمار وإعادة الاعتبار للحقوق الوطنية"، قدّمه فرانشيسكو أموروزو ودانا الكرد. أموروزو، الباحث وعضو "المركز الأوروبي لدراسات فلسطين"، تناول "تفكيك الاستعمار الاستيطاني: أفكار في الحياة العادية والتطبيع وسياسة الاعتراف". عاينت مشاركته الاستعمار الاستيطاني، لا بوصفه بنية اجتماعية فقط، بل مشروعاً مهيمِناً في المقام الأول.
ووفقاً له، فإن الدول الاستيطانية تُنتج أنظمة مهيمنة من الحياة العادية، تُرسّخ الاستعمار الاستيطاني داخلياً وخارجياً، بينما يكمن السعي لحياة عادية في صميم القومية الفلسطينية. وأضاف: "إذا كانت الحياة العادية داخل إسرائيل تدعم إعادة إنتاج السلب الاستعماري والاستيطاني، فإن السعي للتطبيع قد يكشف عن رؤى مهمة عن عدم استقرار الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية".
مصطلحات تهدّد جوهر النضال
أمّا دانا الكرد، الأستاذة المساعدة بقسم العلوم السياسية في "جامعة ريتشموند" بالولايات المتحدة، فجاءت مشاركتها بعنوان "العودة إلى الحقوق الوطنية في ’الصراع‘ الفلسطيني الإسرائيلي". وفيها أكّدت أن انتفاضة الشعب الفلسطيني العامَ الماضي وسّعت آفاق الخطاب حول مستقبل فلسطين من خلال جعل الإطار "الديكولونيالي" أكثر حضوراً في الوعي الشعبي. وقرأت المحاضِرة ما تحدّث به ناشطون عن صراع مشترك، وأن الحلّ يكمن في تفكيك مشروع الدولة الإسرائيلية. ومن ذلك ما جاء به بعض المناصرين عن الفصل العنصري ودفاعهم عن "مقاربة قائمة على الحقوق"، في حين يتحدّث المثقفون اليساريون عن الاستعمار الاستيطاني وإنهاء الاستعمار.
ورأت أن خليط المطالب والمصطلحات هذا، والذي غالباً ما يتسرّب إلى الخطاب الشعبي، يهدّد بتشويه جوهر النضال الفلسطيني، الذي يتمثّل ببساطة في النضال من أجل السيادة. وبيّنت خلال مشاركتها حدود المقاربات والأطر التي يجري الدفاع عنها حالياً، موضحةً أن التقليل من السيادة في النقاشات في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يؤدّي إلى خلاصات إشكالية.