استمع إلى الملخص
- يتناول التغييرات الديموغرافية والسكانية الناتجة عن النزوح القسري والتهجير، مشيرًا إلى استخدام النزوح كأداة سياسية وتأثيرها على السياسات الدولية، ويحلل أساليب النظام والمليشيات في فرض التهجير.
- يسلط الضوء على الصراعات بين الدولة وسلطات الأمر الواقع مثل داعش وقسد والجيش الحر، ويبين تأثير هذه الصراعات على الخريطة السورية والتغييرات المجالية والسكانية، محذرًا من مخاطر ديموغرافية مستقبلية.
عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر كتاب "التغريبة السورية: الحرب الأهلية وتداعياتها المجالية والسكانية 2011 - 2020"، لأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية والباحث السوري سامر بكور في جزأين، الأول بعنوان "المناطق الجنوبية والوسطى والساحلية من سورية"، والثاني بعنوان "المنطقة الشمالية الشرقية والمنطقة الشمالية الغربية من سورية".
أسباب الثورة
يركّز الجزء الأوّل على بحث أسباب الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 وما تلاها من حرب أهلية وأحداث جسام أثرت كثيراً في سورية ومحيطها، ولا تزال تداعياتها ماثلة أمام أنظار العالم أجمع حتى يومنا الحالي، وبخاصة في ما يتعلق بمسألتَي النزوح والتغييرات التي حصلت على الخريطة السورية، اللتين يقف الكتاب على آثارهما حتى عام 2020، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" وتأثيره الكبير في تغيير مجرى الصراع.
يعود المؤلّف إلى عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" التي كتبها أطفال في عام 2011 على جدار مدرسة في درعا متأثرين بجو الثورات على الأنظمة التسلطية في المحيط العربي، فاعتقلتهم أجهزة النظام السوري وعذّبتهم وأذلّت أهاليهم؛ ما تسبب باشتعال موجة احتجاجات لم تُعهَد منذ أمد بعيد، لا بسبب اعتقال الصِّبْية فحسب، ولا نتيجةً لعامل لحظي، بل بسبب عقود من الاستياء والمظالم التراكميَّين اللذَين عانى منهما الشعب السوري.
يركز الجزء الأول على بحث أسباب الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 وما تلاها من حرب أهلية
ويشير إلى أن سورية شهدت بعد عام 2000 تحرّراً اقتصاديّاً "انتقائيّاً" ومتسارعاً كرّس منافسة على الموارد العامة المتناقصة، وزاد اللامساواة الاجتماعية، وقلّص فرص المواطنين ذوي الدخل المحدود، وضخّم ثروات شريحة صغيرة من رجال الأعمال والشخصيات الأمنية.
ويوضح أن أول الأسباب التراكمية لتفجّر الثورة تمثّل في مفاقمة إصلاحات بشار الأسد الاقتصادية النيوليبرالية المعولمة، وفتْحِه سورية للتحرّر الاقتصادي والرأسمالية المحسوبية (افتتاح البنوك الخاصة وأسواق الأوراق المالية ومناطق التجارة الحرة وخفض الرسوم الجمركية) المشكلاتِ الاقتصاديةَ وتعاسةَ المناطق الريفية الفقيرة، في مقابل مراكمة رأسماليي النظام الأموال عبر القوانين التي سُنّت لمصلحتهم، وخصوصًا أصحاب العقارات، الذين استملكوا بها الأراضي الزراعية في أماكن كثيرة من درعا وريف دمشق وحمص؛ ما أدى إلى استياء شديد من أهلها.
وثاني الأسباب التراكمية خيبة أمل السوريين في النظام الجديد بعد 30 عاماً من قمع حافظ الأسد، بعد تفاؤلهم بقائده الشاب والمنفتح وأملهم في ردعه مكامن القمع والفساد في النظام القديم، لكنهم لم يعايشوا في عهده سوى مزيد من التسلط والقمع والفساد على المستويين السياسي والإداري، والأخير استفحلت فيه الرشوى مقابل الخدمات، حتى وصل التدهور الاقتصادي في سورية إلى درجة تصنيفها من منظمة الشفافية الدولية في عام 2010 الدولةَ الـ 127 عالميّاً والـ 15عربيّاً، وفق الكتاب.
ولفت إلى أن السبب التراكمي الثالث للثورة كان ترافُقَ النموِّ السكاني السريع في سورية مع زيادة البطالة في وسط الشباب الذين يبلغون 26 % من عدد السكان، وهي أعلى بكثير عن مثيلاتها في الدول العربية الأخرى، وكذلك زيادة الفقر والتدهور الاقتصادي والتضخّم وضعف القوة الشرائية.
أما السبب التراكمي الرابع فطبيعي، وهو فترات الجفاف الطويلة ونقص المياه والتآكل الزراعي التي مرت بها سورية؛ ما دفع المزارعين الذين شَحَّ محصولهم ومربّي الماشية الذين فقدوا معظم ماشيتهم إلى هجرة جماعية نحو المدن قُدِّرت (وفق تقرير الأمم المتحدة عام 2010) ما بين مليونين وثلاثة ملايين شخص؛ ما زاد أعباء بنية المدن التحتية المتصدعة أصلًا، لوجود نحو 1.5 مليون لاجئ عراقي.
تغييرات الخريطة السورية
تطرق الكتاب بتوسع إلى مسألة كبرى هي من أهم إفرازات الحرب الأهلية السورية، وهي "النزوح"، فقسّمت العنف ضد المدنيين في الحروب الأهلية ثلاثة أقسام: الانتقائي (ينطبق على ما كان يقوم به النظام السوري من انتقاء مناطق معينة بالقصف)، والعشوائي (الاستهداف الموضعي بغض النظر عن سلوك المستهدَفين وهويتهم)، والجماعي (يستهدف مجموعات بأكملها تكون ذات خصائص موحدة)، وينشأ عنها جميعًا "النزوح القسري"، الذي لم يمارسه النظام السوري فحسب، بل بعض المليشيات الطائفية والإثنية الأخرى، وأصبح من أكثر القضايا الملحّة التي تواجه العالم.
ويتناول الكتاب التغييرات التي حصلت على الخريطة السورية خلال الحرب الأهلية، ويحلّل ظاهرة التهجير القسري والنزوح التي ألقت بظلها على دول المنطقة والعالم حتى أضحت ورقة مساومة لدى بعض الحكومات، وأداة مؤثرة في نتائج انتخابات، وتشكيل حكومات، وصعود قوى سياسية جديدة، ونسج تحالفات، كما تبيِّن أن إدلب كانت الوجهة الأساسية للنازحين داخليًّا لأسباب تمَّ تفصيلها.
يحلّل الكتاب ظاهرة التهجير القسري والنزوح السوري التي ألقت بظلها على دول المنطقة والعالم
وحول أساليب النظام في فرض التهجير القسري، ذكر الكتاب أولاً القصف العشوائي (إلقاء قوات النظام 82 ألف برميل متفجر على ريف دمشق وحلب ودرعا وإدلب وريف حلب الشمالي)، وثانياً الحصار (الجزئي أو الكلي) الذي تشكل قيوده أهم العوامل الطاردة للسكان، وذكرت المنظمات الدولية أن عدد الذين عاشوا تحت الحصار خلال الحرب السورية بلغ 10% من السكان. وثالثاً التجويع، بإغلاق المعابر كافة إلى المناطق المحاصَرة. ورابعاً المذابح على أساس طائفي أو إثني أو غيرها (ذبح المليشيات التابعة للجيش السوري السكان السنّة في قرى الجيوب السنّية في محافظتَي طرطوس واللاذقية ومدينة حمص والحولة والقبير وحماة وبانياس والسكان الإيزيديين في الحسكة، وذبح جبهة النصرة سكان القرى العلوية في شمال اللاذقية وريف جسر الشغور). وخامساً الحرمان من العودة، عبر تدمير الممتلكات (حمص وريف دمشق) وتغيير مستنداتها (مخيم اليرموك) واستصدار قوانين لمنع التصرف بها، تبيح حجزها ومصادرتها ونقل ملكيتها إلى الدولة.
سلطات الأمر الواقع
يضيء الجزء الثاني الصراع الداخلي بين أطراف الحرب الأهلية، وعلى علاقات المد والجزر بين الدولة الأم وسلطات الأمر الواقع، كما يركز على بحث أسباب خسارة التنظيمات المسلحة في المنطقتَين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية الأراضيَ الواسعة التي كانت سيطرت عليها، واستعادة النظام أجزاء منها.
يشير المؤلف إلى أن سلطات الأمر الواقع أحدثت في محافظات الدراسة جماعات أو تنظيمات، تغييرات بنيوية وسكانية، ودخلت في تحالفات محلية وإقليمية وشبه دولية ساهمت في استمرار بعضها إلى حين، وبعضها لا يزال قائماً.
ويبين نه بعد طرد قوات النظام من معظم محافظات الشمال الشرقي والشمال الغربي، وتشكُّل مجموعات إسلامية جهادية وإثنية، وقع التنافس بين مجموعات معارضة كثيرة. ولإلقاء الضوء على التغيير الذي مرت به هذه المناطق خلال التنافس المسلح بين هذه القوى، كشف هذا الكتاب ما خلفته الصراعات من زعزعة للاستقرار وفرار لملايين البشر إلى مناطق آمنة أو دول أخرى، وفرصة لإعادة النفَس إلى النظام الذي استغل معارك تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" مع الجيش الحر وجبهة "النصرة" وطردهما من مناطق سيطرتهما في الشمال، ومعارك قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مع الفصائل وانتزاعها الأراضي منها، لشنّ قواته هجمات ودخولها أجزاء من محافظات دير الزور والرقة وحلب وإدلب.
ويُثبت الكتاب الفشل الذي منيت به الدولة الأم ممثلةً بالنظام، وسلطات الأمر الواقع ممثلة بداعش وقسد والجيش الحر وهيئة تحرير الشام... وغيرها، فكلها "دول" فاشلة، سواء تمثلت بمناطق النظام أو بمناطق محافظات الشمال الشرقي والشمال الغربي، كمناطق الإدارة الكردية ودرع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام. وباستيلاء الإسلاميين الجهاديين وتنظيمات إثنية أخرى على قسم كبير من المنطقَتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية، شهدت هاتان المنطقتان على مدار عقد من الزمن تغييرات مجالية وسكانية كبيرة ومصيرية وتكاد تكون جذرية، كما أنها مهّدت الطريق للتدخل الأجنبي، خاصة مع ظهور داعش وإعلانه الرقة عاصمة دول الخلافة.
توثيق عمليات التهجير والنزوح
ولهذا الجزء أهمية خاصة، بسبب تسليطه الضوء على جميع مجريات الحرب السورية في المنطقتَين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من سورية، وتغير ميزان دعم القوى على المستويَين المحلي والإقليمي، وقد كان لاستخدام الفصائل والمليشيات الطائفية والعرقية استراتيجيات التهجير القسري والتطهير العرقي والطائفي والطرد المنظم بحق أفراد الجماعات العرقية والدينية ومجموعات الهوية الأخرى، ولجوئها إلى مختلف أنواع التهجير الاستراتيجي حيّز كبير فيه. وبناء على هذا، توصّل الكتاب إلى نتيجة مؤدّاها أن التغييرات التي حدثت في المنطقتين مثّلت "قنبلة" ديمغرافية بشرية سياسية يهدد انفجارها بتشظيات في المنطقتين لا تُحمد عقباها.