ألا تُعاني الليبرالية، اليوم، من إشكاليات حتى في المجتمعات التي انطلقت منها، أو حازت على شبه توافُق فيها؟ فما هو الحال لو انتقلنا من ذلك الوضع العولمي إلى المُقابل المحلّي؟ بهذه الاسئلة افتَتح الباحث في عِلم الاجتماع والأكاديمي الفلسطيني ساري حنفي محاضرته حول "اليسار العربي والليبرالية السياسية" التي عُقدت في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بفرعه في عمّان، مساء أمس الجمعة.
انطلق حنفي في ورقته البحثيّة ممّا سمّاه أمراض الحداثة المُتأخِّرة، والتي تتمثّل، في المجال السياسي، بالاستبداد كما تجلّى في بُلدان الجنوب، وتُقابلُه الشَّعبوية في بُلدان الشمال، وكذلك اتّجاه الجمهور سياسيّاً إلى اليمين. كما استعرض من خلال خريطة العالَم الانزياحَ الكبير عن أفكار اليسار حتى في أوروبا، وارتفاع "الاقتراع الديمقراطي" لصالح الأحزاب اليمينية الشعبوية، مُنبّهاً إلى أنّ ليس كلّ يَميني شعبوي.
تضخُّم حضور سياسات الهوية لدى اليسار حجّم التحليل الطبقي
أمّا في المجال الاقتصادي فيُمكن الحديث عن تزايُد اللامساواة والهشاشة. فما يتركه الآباء، اليوم، لأولادهم أقلّ بكثير ممّا حصّله هؤلاء الآباء من آبائهم قبل نصف قرن، على سبيل المثال. في حين يُشكِّل تزايُد الاستقطاب الفكري داخل المجتمعات، أحد هذه الأمراض في المجال الثقافي. ليبقى الترويج لمقولة الاحتياج إلى العسكر حتى في دُول، خارج أوروبا، تحوز على مستوى معيّن من الديمقراطية، واحداً من أزمات الديمقراطية الليبرالية، اليوم، حسب المُحاضِر.
كما تناول صاحب "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، نحو تجاوز القطيعة" (2021) مفهوم "الرأسمالية العاطفية" الذي تحدّثت عنه عالمة الاجتماع الفرنسية إيفا إيلوز، وما لفتت إليه حول تفشّي عدم اليقين العاطفي في المواضيع الرومانسية، وهذا نتيجة سوسيولوجية مباشرة لجمع وترسيخ أنماط السوق الاستلاكية، وتعميمها في مجالات كصناعة الأدوية ووسائل التواصل الاجتماعي التي عزّزت أيديولوجيا الاختيار الفردي. ويعود حنفي إلى مُقارنة هذه الحال بوعود الخطاب الليبرالي في السبعينيات عندما كان التركيز على مبادئ المواطنة والمساواة أكبر.
لكنّ السؤال يظلّ قائماً: لماذا كانت ردّة فعل قطاعات مهمّة كعلماء الاجتماع والحقوقيّين والصحافيين والإعلاميين ضعيفةً على هذه الأمراض؟ ويُحدّد الباحث المُشكلة بأنّ مجموعة كبيرة من الأكاديميين والمثقّفين الأقرب لليسار أصبحوا ليبراليين كلاسيكيين، وإن لم يكونوا كذلك سياسياً، بمعنى آخر لقد صاروا "ليبراليين رمزيّين"، وهؤلاء لم يُقاوموا أمراض الحداثة المتأخّرة.
ضرورة البحث في قضايا التنظيم الاجتماعي، ووضع حدّ أدنى من الدخل للجميع
وحول ثقافة الإلغاء الرائجة في أوساط أكاديمية غربية، نبّه حنفي إلى أنها ليست مجرّد "صرعة" اتَّهم بها اليمينُ اليسار، بل تتمثّل في عدم التسامُح مع الآراء المُعارضة، ورواج التشهير العام والنبذ، والميل إلى حلّ قضايا السياسات المعقّدة في يقين أخلاقي مُطلق، وبُنِي علينا ما يمكن تسميته "ثقافة الإفراط بالسلامة"، وتعني السيطرة من قبل المؤسسات على أيّ ضرر يلحق بالزبائن ضدّ الأساتذة، من خلال تعليق الخدمة أو إنهائها. ففي عام 2022 مثلاً، تمّ استهداف 149 أستاذاً أميركياً بسبب آرائهم، مقابل 49 أستاذاً عام 2015. كذلك كلمة كـ"الأبهارتيد"، الكثير من المؤسسات الأكاديمية الغربية تحظر استخدامها، وتوظّف منعها ضد مناصرة القضية الفلسطينية.
ووقف حنفي عند أفكار جون رولز (1921 - 2002)، واشتغالاته حول العدالة الاجتماعية، ومفهوم حقوق الإنسان الكونية، لكن قبل ذلك يجب الانتباه إلى نظرته حول مفهوم الخير بأنه ليس واحداً، خاصة داخل المجتمع المُتعدّد، والنقاش يبقى مُركّزاً حول كيف يصل الناس إلى توافق، وأننا في الفضاء العام نبحث عن المعقول، وليس العقلاني.
وتوسّع المُحاضر في حديثه حول سياسات الهوية والأولوية التي باتت تحوزها في وسائل الإعلام، وهذا برأيه يرجع إلى التحوّل من كون اليسار طبقياً أم ثقافياً، كما هو الحال عليه اليوم. ورأى أن هناك التجاء مُفرط في التعويل على الثقافة في التحليل، وهذا همّش مبادئ جوهرية موحّدة مثل الصراع الطبقي. وعلى المستوى الانتخابي حوّل هذا الأمر الانتخابات لتصبح مجرّد ساحات لمجموعات متنافسة تعكس خيارات فردية بعيدة عن القضايا التي تخص المجتمع.
وختم بضرورة البحث في قضايا التنظيم الاجتماعي، ووضع حدّ أدنى من الدخل للجميع، يكفل الصحة والتعليم، وتدخّل الدولة - إن لزم الأمر - في ضبط الاستهلاكية وإنفاق الناس في المجتمع. كما شدّد على دعوته التي كتب عنها في أبحاثه مراراً، بأن تكون هناك مسافة آمنة بين الدين والسياسة، وهي عكس العلمانية وفقاً للنموذح الفرنسي العنيف الذي يعزّز الاستقطابات داخل المجتمع.
يُشار إلى أنّ ساري حنفي يعمل أستاذاً لعِلم الاجتماع في "الجامعة الأميركية" ببيروت، ومديراً لـ"مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية"، ورئيساً لـ"برنامج الدراسات الإسلامية" فيها. ترأس تحرير "المجلة العربية لعلم الاجتماع: إضافات" بين عامي 2017 و2022؛ و"الجمعية الدولية لعِلم الاجتماع" منذ 2018. من مؤلّفاته: "البحث العربي ومجتمع المعرفة: نظرة نقدية جديدة" (مع ر. أرفانيتس/ 2015)؛ و"اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان" (مع آ. كندسون 2015)؛ و"علوم الشرع والعلوم الاجتماعية، نحو تجاوز القطيعة: أليس الصبح بقريب" (2021).