زيدان كفافي.. تشكُّل المدن الأُولى على أرض الأردن

30 يونيو 2023
تماثيل من منطقة عين غزال في "متحف الآثار الأردني" بعمّان
+ الخط -

على مدار أكثر من أربعين عاماً قضاها بين تدريس الآثار في "جامعة اليرموك" الأردنية، والمشاركة في الحفريات الأركيولوجية في مواقع عدّة بالأردن، والتأليف في مجال تخصّصه الأساسي؛ العصور القديمة لبلاد الشام، كرّس زيدان كفافي منظوره لعلم الآثار بوصفه "فكراً وفنّاً واقتصاداً واجتماعاً وسياسة، وماضياً مكتوباً وغير مكتوب، لاستلهام الأشياء غير المرئية فيه".

توصيٌف استهّل به الباحث الأردني (1950) محاضرته المعنونة بـ"التمدّن والمدن الأُولى في الأردن"، والتي نظّمتها "مؤسّسة عبد الحميد شومان" في عمّان مساء الاثنين الماضي، واستنطق خلالها البقايا الأثرية وما هو مكتوب ومنقوش للوصول إلى حالة معرفية حول مجتمع بشري عاش على أرض الأردن بين عامَي 3500 و1200 قبل الميلاد.

وأشار كفافي، في المحاضرة التي أدارتها أستاذة التاريخ العثماني هند أبو الشعر، إلى أنّ هذه الفترة الزمنية المحدَّدة شهدت التمدّن أو المدنية التي لم ترَ النور بشكلْ مفاجئ إنما على نحو متدرّج، وتناولها في أكثر من بحثٍ له وقّعه في معرض الردّ على مقولات باحثين أميركيين، على وجه الخصوص، تتمثّل في خلوّ جنوب الشام من المدن والدول في الحقبة المدروسة، موضّحاً أنّ مفهوم المدينة لا يتطابق بين جميع حضارات العالَم القديم، بسبب التباين الفكريّ والاقتصادي والسياسي بين مجتمعاتها.

يُفنّد مزاعم خلوّ جنوب الشام من المدن في الحقبة المدروسة

وبالعودة إلى الأدوات الصوّانية التي عُثر عليها في منطقة السخنة عند التقاء وادي الضليل بوادي الزرقاء (شمال شرق عمّان)، ضمن مشروع مشترك بين جامعتَي "اليرموك" و"روما" بين عامَي 1996 و2000، بيّن أستاذ علم الآثار أنّها، بحسب رأي المتخصّصين، تُعَدّ أقدم الأدوات الحجرية التي اكتُشفت خارج أفريقيا، وتؤرَّخ بنحو مليونين ونصف مليون سنة.

وفي فترة مجتمعات الصيد والالتقاط التي تنتمي إلى الثقافة النطوفية، يؤرّخ المُحاضر لأدوات طحن ومناجل ومبانٍ اكتُشفت في منطقة وادي الحمّة بالغور الأردني، وبادية الصفاوي أيضاً، حيث بدأ تأسيس مخيّمات (مستوطنات) بشرية، بعضُها موسميّ وبعضها الآخر دائم، تحوّلت في مرحلة لاحقة إلى قرى استقرّ فيها الناس نتيجة انحسار الموارد الطبيعية والمائية مع التغيّرات البيئية آنذاك، في خريسان وعين غزال بوادي الزرقاء الذي يصل طوله إلى سبعين كيلومتراً.

وتوقّف كفافي عند التماثيل المكتشفة في هذه المواقع، والتي مثلّت التصوّرات حول ما بعد الموت، ومن أقدمها تمثال بيليندورس لامرأة حامل يصل طوله إلى ثلاثة عشر سنتيمتراً، حيث كانت المرأة هي الأساس في تلك المجتمعات. ثمّ تطوّر الأمر فكرياً مع الزمن بتجسيد تماثيل تشكّل الصلة مع الآلهة، وترافق ذلك مع تطوّر اجتماعي دفع إلى بناء منازل من طابقين تستوعب العائلات الممتدّة، مع ظهور معابد عديدة في منطقة عين غزال. ونوّه المُحاضر إلى أنّ مشروع الباص السريع، الذي بدأت السلطات العملَ به عام 2010، أضّر بواحد من تلك المنازل عبر الاعتداء على أجزاء منه.

زيدان كفافي
زيدان كفافي خلال المُحاضرة (تصوير: ديالا الدباس)

في الألفين الرابع والخامس قبل الميلاد، قرأ صاحب كتاب "الأردن في العصور الحجرية" (2001) الفترة التي سبقت نشوء المدن الأُولى، حيث برزت جملة متغيّرات مثل تصنيع النحاس في منطقة وادي فينان (100 كم جنوب البحر الميت) مثلاً، إذ عُثر هناك على قوالب كان قد عُثر أيضاً على مثيلات لها في منطقة المعادي بالقاهرة، ما يشير إلى وجود علاقات تجارية بين المنطقتين، كما بدأ استخراج مشتقات الحليب، واستُخدمت الحمير في التجارة والتنقّل، وهو ما تعكسه منحوتات ترجع إلى تلك المرحلة، بالإضافة إلى الفنون التي عبّرت عن تطوّر المعتقدات الدينية.

وأوجز كفافي المتغيّرات الأساسية التي قادت إلى المدن والمدنية، وذلك عبر جدول حول المحطّات الأساسية يثبت مجتمعات الجمع والالتقاط على أرض الأردن قبل أربعة عشر ألف سنة، ثم بدأ طحن الحبوب في الفترة التي سبقت الألف الثامن قبل الميلاد، فالزراعة بين الألفين السادس والثامن قبل الميلاد، وظهور الصناعة والتجارة بعد ذلك التاريخ.

لا يتطابق مفهوم المدينة بين جميع حضارات العالم القديم

وفرّق بين ثلاثة مصطلحات أساسية، هي: "الثقافة"، التي تمثّل الإناء الواسع الذي يضمّ الحضارة؛ و"الحضارة"، التي تحيل إلى نظام اجتماعي في إدارة الموارد الطبيعية والنظم السياسية والتقاليد والعلوم والفنون؛ في حين تعني "المدنية" حالة متقدّمة من الإبداع والفكر والسلوك الإنساني، لكنّ الوصول إليها يتطلّب فائضاً في الناتج الزراعي الذي يكفي لتزويد مجموعات أُخرى من المتخصّصين في الصناعات، وظهور المجتمع المتمدّن بتطوّر العلاقات والتبادلات التجارية.

وبيّن زيدان كفافي أنّ أبرز السمات التي ميّزت مدن الأردن الأُولى كانت كثافة سكّانها، والتعقيد الاجتماعي، وتبادل المصالح بين الأفراد، ووجود تنظيمات وقوانين رسمية تنطبق على الجميع، وممارسة مجموعة من النشاطات الاقتصادية فيها، ووجود مراكز خدمات عامّة لسكّان المدينة والمناطق المحيطة بها. وصنّف تسلسل إنشائها ضمن ثلاثة عصور أساسية: البرونزي القديم (3600 - 2000 ق. م) في منطقة جاوه بالقرب من الصفاوي، وجبل المطوّق في وادي الزرقاء؛ والبرونزي المتوسّط (2000 ـ 1550 ق.م) في بيلا ودير علا؛ والبرونزي المتأخر (1550 ـ 1200 ق.م) في تلّ الحمام واللجّون.

المساهمون