زوريتا مكرَّماً في غرناطة لوركا

15 فبراير 2023
احتفاءات متتالية في القارة اللاتينية (راؤول زوريتا في تكريم سابق)
+ الخط -

بارتياح الاستحقاق، قوبل في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي خبر منح الشاعر التشيلي راؤول زوريتا جائزة الشعر العالمية فيديريكو غارسيا لوركا بدورتها التاسعة عشرة التي تمنحها بلدية مدينة غرناطة، بالتعاون مع مؤسسة فيديريكو غارسيا لوركا الثقافية. تُعتبر هذه الجائزة واحدةً من أعرق الجوائز في مجال الشعر المكتوب باللغة الإسبانية. تبلغ قيمتها الماديّة 20 ألف يورو، وقد أعلنت لجنة التحكيم، التي ضمت شعراء ونقادا من الصف الأول عن الفائز، من المركز الثقافي الذي يحمل اسم الشاعر الغرناطي الكبير لوركا. 

ومن المتوقع أن يستلم زوريتا الجائزة في ربيع هذا العام في مدينة غرناطة، متوِّجاً مهرجان مدينة غرناطة الشعري، حيث سيتم الاحتفاء بالشاعر  الكبير "الذي لا يتوقف عند إعادة صياغة عمله حتى لا يكون متحجّراً وراسخاً، بل متجدّداً باستمرار"، كماء جاء في بيان لجنة التحكيم، الذي قرأه كارلوس باردو، ممثل مؤسسة فيديريكو غارسيا لوركا، الذي قال أيضاً: "إنّ الشاعر التشيلي راؤول زوريتا، الذي فاز بجائزة الملكة صوفيا للشعر في عام 2020، تكريماً لعمله الشعري، ولكونه مثالاً شعرياً حيّاً تغلّب على الألم بكلمات ملتزمة بالحياة والحرية، يتمتع بغنائية مكثفة وشخصيّة قويّة. استطاع أن يجمع بين هذا وبين تجربته الاجتماعية والسياسيّة، إضافة إلى امتلاكه حساسيّة فريدة تجاه الطبيعة، حيث وسّع بتجربته الإبداعيّة الحدود بين الأجناس وذلك من خلال الارتجال والتجريب". 

يتسلّم زوريتا الجائزة ربيع هذا العام في مدينة غرناطة

وقد فاز زوريتا بالجائزة من بين ستة وثلاثين مرشحاً من جنسيات مختلفة، معظمهم من إسبانيا، الأرجنتين وتشيلي والمكسيك وفنزويلا وكوبا. حيث قامت أكثر من خمس وسبعين مؤسسة حكومية وثقافيّة بتقديم مرشحيها لهذه الجائزة السنوية التي فاز بدورتها السابقة الشاعر المدريدي لويس ألبرتو دي كوينكا. 

وُلد زوريتا في العاصمة سانتياغو (10 كانون الثاني/ يناير 1950)، ونشأ على أبيات "الكوميديا الإلهيّة" لدانتي، التي كانت جدّته تقرؤها له في لغته الأم، الإيطالية. هكذا، كان دانتي أوّل إلهام أدبيّ للشاعر، ولذلك لن نستغرب أن يكون عنوان ديوانه الشعري الأول "المَطهَر" (1979)، الذي رأى فيه النقّاد ولادة شاعر جديد شاءت له ظروف الحياة الغريبة أن يدرس الهندسة. ثم بعد ذلك كان ديوانه الثاني، "عتبة الجنّة" (1982)، وتالياً "نشيد حبّه الغامض" (1985)، ثم "الحياة الجديدة" (1994) وغيره من الأعمال التي وضعته على لائحة أفضل شعراء تشيلي وأميركا اللاتينية الذين كتبوا الحياة شعراً، وعاشوها مقاومةً.

لطالما عاش زوريتا الحياة شعراً، أو بالأحرى عاش الشعر حياة. لذلك لن يستغرب القارئ حينما يسمع عن مغامراته الشعرية التي كان آخرها محاولة زيارة مدينة مكسيكو، لأنه خطط أن يكتب في سمائها أبياتاً تمثّل رؤيته لمواجهة الإله والإنسان، حيث ينتصر الشاعر للإنسان. 

لكن، في نهاية المطاف، حالت الظروف والتراخيص والأذونات الإدارية دون أن يفعل ما عزم عليه. وهكذا بقيت القصيدة تعيش في مخيلته. غير أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يفعل فيها زوريتا ذلك. ففي سبعينيات القرن المنصرم، تحديداً في زمن ديكتاتورية بينوشيه، حيث سُجن وعُذب، عندما لم يكن بعد قد أصبح الشاعر الشهير، حلم بما لا يمكن تحقيقه أبداً: أن يكتب أبيات شعره في صدر السماء. وفي عام 1982، صار الحلم حقيقةً. حلّقت خمس طائراتٍ في سماء مدينة نيويورك وكتبت أبياته السماويّة: "إلهي الجوع. والثلج إلهي. إلهي الرفض". 

تحديداً بين هاتين القصديتين خلق زوريتا مكانه، بين الأرض والسماء، الحلم والواقع، الليل والنهار، معطياً للشعر مهمة حمل الإنسانية الثقيلة والمريرة على أكتافه، بعد أن هجرها الميتافيزيقي. هكذا بدلاً من أن تكتبنا السماء، يحاول الشاعر- والمحاولة تجوز شرط أن تكون صادرةً عن رؤية إبداعية ولغوية أصيلة - أن يكتب السماء باسم الشعر. قد تكون هذه المحاولة صرخة يأس وبكاء وقنوط من الإله. غير أنَّ الشاعر يفيض أملاً، فهو يؤمن بأن إلهه- الشعر- قادرٌ على تغيير مسار الإنسانية وكتابة بداية جديدة لهذا الكوكب الذي دُمِّر فيه كل شيء. 

"كل شعر عظيم أخلاقي بامتياز. في نهاية المطاف حلم القصيدة هو فعل الخير. حلم القصيدة ألا يكون هنالك إنسان مدمَّر. حلم القصيدة هو ألا يقتل إنسان إنساناً آخر. ولكن، لسوء الحظ، لقد كُتب على الشعر، في كثير من الأحيان، أن يقول المأساة والآلام. ربما، لهذا السبب، تحديداً، تصيبنا الكلمات بالعجز، تكسرنا. يفترض على الشعر أن يكتب الحب، لكنه، في هذه الحياة لم يقل غير الموت. وكان هذا استنزافاً هائلاً لنا"، يقول الشاعر التشيلي موضحاً مهمة الشعر العظيم.

لطالما عاش زوريتا الحياة بقلق، كمثل طائرٍ محبوس في سجن ضيّق. مع ذلك، ظل يحارب ويقاتل بسلاحٍ واحدٍ فحسب: الكلمات. ظلَّ يسمي الأشياء والأحجار والطبيعة والعشب والبذار والحصاد والأنهار والجمال في مواجهة هذا الجحيم الإنساني. لم يستسلم، لم يخضع. ظل شامخاً بكلماته كمثل صخرة تواجه الريح. عاش ولايزال يعيش بحرية حيث "لا خوف ولا ألم".

بهذا التكريم الجديد للشاعر التشيلي زوريتا، يزيد إيماننا بأن الشعر لا يزال تلك الرئة الثالثة التي تتنسم اللامرئي. إنه تلك المساحة الخاصة للتفكير والتأمل، للإحساس والتذكر. إنه تلك اللغة الوحيدة والأخيرة للتعبير عن الأشياء. وهو في ذلك عناق دائم بين إنسان وآخر. إنه ضحك وبكاء وهو في هذا كله أسمى تعبير عن الحرية. 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون