ريم الجندي.. قصّة الماء

25 اغسطس 2024
(من المعرض)
+ الخط -

لا يفاجئنا أن نقرأ لريم الجندي في تقديمها لمعرضها "ملمس الماء"، المستمرّ في "غاليري أجيال" حتى الحادي والثلاثين من آب/ أغسطس الجاري، أنّه حصيلةُ جيرةٍ طويلة لـ"بيسين في موتيل"، الذي يرجع بناؤه إلى سبعينيات القرن الماضي، أنّ وراءه سنوات من عِشرة الموتيل الذي هو، بحسب نصّ الجندي، "كبسولة زمنية تعيش في هناءة متوسّطية".

ليست المرّةَ الأُولى التي تستلهم فيها الفنّانة التشكيلية اللبنانية حياتها الخاصّة؛ ذلك يكاد يغلب على فنّها. إنّها هي وابنها وزوجها والأصحاب وأمكنتهم يُطلّون غالباً من اللوحات، في تقصُّد معلَن إلى حدٍّ يُراودنا معه التشكيك فيه. هذه السيَرية (من سيرة) متعمَّدةٌ، وكذلك الإعلان عنها، وتسميتها ما يكاد يكون بالحرف، يمكننا أن نعتبرها لذلك في أصل العمل وأنّها عضوية فيه. لكن الأمر يتعدّى هذه المرة العنوان والتسمية. إنّه أسلوب بحدّ ذاته، أسلوبٌ له خاصيته وله طريقته، بل وطرائقه.

عودة ريم الجندي المتكرّرة إلى حياتها الخاصّة ليست فقط بالموضوع، بقدر ما هي خيارٌ تشكيليّ أوّلاً لا نستشفّه من العنوان فحسب، بل هو تكئة للوحة، تتوسّل بهذه السيَرية الوصول إلى خصوصيتها. البورتريه والمونوغرافية هُما مدخل إلى لوحة، لا يستوقفنا فيها هذا الشأن الذاتي، بقدر ما تستوقفنا الخيارات التعبيرية.

ملمس الماء - ريم الجندي
(من المعرض)

يمكننا القول إنّ رؤيتها، وإن اكتسبت هذا المرجع الذاتي، هي قبل كلِّ شيء فنُّها. هي بالدرجة الأُولى تعامُلها مع العالم والأشياء والتفاصيل، عالمها وحدها. لذا لا نسأل ريم الجندي عن قصّتها مع الماء فقط، بل نتساءل معها عمّا يجعل من الماء ملمساً، أي ما يجعل منه جلداً آخر وبيتاً وطقساً وتشكيلاً وإيحاءً ورغبة وشغفاً.

حين ننظر إلى اللوحات، أو ما على بروشير المعرض، نرى الماء هنا دوائر وانحناءات متوازية في الغالب، ما يجعلها تتوالى تحت العينَين في ما يكاد ينمّ عن موسيقى، بقدر ما يشفّ عن زخرفة خاصّة، لكن يلفتنا داخل الماء الجسد العائم في ما يشبه أن يكون جُرحاً فيه، أو مصغّراً يشقّه من العمق.

ثمّة ما يجعل للوحة هذا التكامُل بين صفحة الماء وسرّها العائم

يلفتنا أنّ إرادة التصغير هذه، والشقّ في الماء، والحركة التي تمخر الماء من دون أن تتعارض معه، بل تبدو في الغالب جزءاً من تلوياته وزخرفه، مستمدَّة من هذه الحركة كما من امتدادها الطولي، امتداد الجسد النحيل الذي يشقّ الماء بحيث يبدو مصغّره العائم، مصغّر الجسد الذي يترك للماء أن تكون له هذه الفسحة وذلك الانبساط. لن يكون لهذه الالتواءات المتوازية التي تُشكّل سطح المسبح مبنىً إلّا مع هذا الجسد الذي يتضاءل، وغالباً عن قصد، ليُصبح جزءاً من تواليات الماء، بل وعنواناً لها.

القصّة هكذا تبتعد إلى زاوية أو جانب أو منحنى، لكن مع ذلك تبقى القصّة هنا، بل يعينها أن تبقى كذلك، للعجب، هذا النزوع إلى تصغيرها، بحيث لم توجد إلّا لتُشير من بعيد، وبما يشبه الهمس، إلى قصّة الماء كلّها، عندئذ يغدو للتواليات التي تتردّد بما يشبه اللازمة، أو الجمعة الزخرفية، سرّ وقصّة ما.

ملمس الماء - ريم الجندي
(من المعرض)

يمكننا هكذا أن نجد في ذلك التضادّ، أو ما يشبه التضاد، بين حركة الماء المنغّمة وهذا السرّ الصغير، الجسد الذي ينبت في وسطها أو على جوانبها، ما يكاد يكون قصّة ريم الجندي مع المسبح داخل الموتيل التي روتها، بجمال واتّساق، في نصّها المصاحب للكرّاس. في هذه المقابلة بين تلويات الماء والسابحة في طرف منه، أو وسطه، ما يجعل للوحة هذا التكامُل بين صفحة الماء وسرّها العائم، بحيث يتحقّق ذلك كلّه، ليس فقط في اللوحة بمسرحها الصريح وشبه المعلن، بواقعيتها الخاصّة والملبسة، بل يعيد إلينا عنوان المعرض إذاً اللوحة بسطحها وسابحتها وما بينهما من تقابل وتناغم في الوقت ذاته، هي ما يعنيه ملمس الماء وما يستثيره وما يُطلّ عليه.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون