معرض الفنان اللبناني رفيق مجذوب، الذي استضَافه حتى أوّل أمس الجمعة "غاليري آرت 56" في بيروت تحت عنوان "قليلاً من الوقت قبل الحجْر، وبعده"، يوحي بأن الفنان البعيد عن بيروت لا يزال في مساره الذي اختطّه لنفسه منذ عقود.
لا يسعنا أن نصنّف مجذوب، فهو في كلّ معرض غيرُه في معارضه الأخرى، إنه في حالة من الانقلاب على نفسه لا تُفضي إلّا إلى تدميرية موصولة، واعتراض دائم. هذا الاعتراض هو ما يطالعنا به في كل أعماله، بل يبدو أنه مقصوده الأوّل فيها.
إنه يرسم كأنّه يصرخ، وضوضاؤه العالية هي أوّل ما يتجلّى من فنّه. إنه يرسم من عالم من الفوضى المتكتّلة، عالم لا تستقيم فيه الأشياء ولا تستوي، لكنّها تظلّ في خليطها وفوضاها، تظلّ في سلبها الكامل وفي استفزازها. إنها هنا لتصدم، ولتصفع، ولتزعق أحياناً. لن نجد تيّاراً أو خطّاً للفنان، سوى هذه الضدّية الملازمة، سوى الاستفزاز من عمل إلى عمل.
إذا شئنا، مع ذلك، أن نجد اسماً تقريبياً لأعمال مجذوب، قلنا إنها قد تكون دادائيةً راهنة، رفْضاً موصولاً، فحسب، استغرق عملَ الفنان منذ بدأ وعرفناه إلى اليوم. لن يكون معرضه الأخير مختلفاً عن ذلك، فهو من بعيد يثابر على بدايته الأولى، ويستعيدها مجدّداً.
معرض مجذوب الأخير يبدأ من بساطة خادعة. إنه، هذه المرّة أيضاً، يعتمد بساطة تتيح لاستفزازه أن يأخذ مداه. معرضه يقوم ببورتريهات متتالية، إنه معرض وجوه تملأ اللوحة، لكنّ البراءة والفوتوغرافيّة اللتين قد تُطلبان في رسم الوجوه، ليستا تماماً هكذا. يبسّط مجذوب رسماته إلى أبعد حد، إنها وجاهية ومرسومة بما يبدو قلماً.
إذا شئنا تقريب عمل مجذوب، قلنا إنها ربما دادائيةٌ راهنة
إنها متشكّلة، بالدرجة الأولى، من خطوط سوداء لا تقف عند إطار الوجه فحسب، بل تتعدّاه إلى الملامح الداخلة فيه. سنجد هكذا رسماً خطّياً يقترب من النموذج الطفولي. إننا أمام شخبطة لا يعتني باستقامتها، شخبطة من خطوط غير مستوية، وغير مصقولة، وغير نظيفة. أمّا الألوان التي تندلع فوق الوجوه وضمنها، فهي أيضاً دامغة ومسكوبة بدون رعاية، وبنوع من التلطيخ الذي قد يُضمر شخبطات أخرى في الداخل.
اللوحة هكذا هي لوجه لا يبقى فقط وجهاً، إنه يتحوّل إلى معركة قائمة من ألوان وخطوط. بل هو يبدو وكأنه يكاد يخرج من نفسه، يكاد ينفجر من داخله. بل هو قد يصل إلى حالة من الطمس والغياب، قد يبدو اللون عليه غير معنيّ بجلاء الشكل، ولا تحديده أو تأطيره، بقدر ما هو معني بطمسه وتشويهه، وتحويله إلى مادة انفجارية. هكذا لا يعود الوجه سوى نوع من العنف الواقعي عليه، سوى اعتداء على الوجه وتخريب متعمّد له. أي أن الفن الذي نجده في المعرض هو، على نحو ما، نوع من رفض الفن، أو تعنيفه، أو تشطيبه.
إننا أمام فن ينحلّ إلى عناصره الأولى، إلى نوع من طفولية وتبسيط حادّين، إلى رسم هو عبارة عن لخبطة فحسب، فن هو، في قرارته، هجوم على الفن وخنق له. نحن هكذا ننظر إلى وجوه لم تعد فقط وجوهاً. إنها أحوال من التعذيب والدمغ والخنق. هذه الوجوه في رسمها تحاول أن تصل بالفن إلى الصفر، ومن هناك يخرج الفن من تحت عسف، وتحت تخريب طفولي، ودمغ وطمس طفوليين أيضاً.
أين نقف عند معرض مجذوب؟ لا يريد الفنان منّا، بالطبع، تهليلاً واحتفاءً. ليس هذا مراده، ولا هذه نيته. إنه بهذه الخطوط الجارحة، وكأنّها صُنعت بالسكّين أو المقصّ، بهذه الألوان التي تلطّخ وتطمس، بهذه الطفولية الخادعة والمواربة، بهذا التبسيط الذي هو عبارة عن قسوة وتدمير، بذلك كلّه يصل رفيق مجذوب مُجَدَّداً إلى أن يستفز، إلى تعنيف بالكامل. السؤال هو: هل يمكن للوحة أن تكون اعتداءً على الفنّ، وإلى أي مدى يمكن للفن أن يكون سؤالَه، أو سلبَه؟
* شاعر وروائي من لبنان