منح الروائي اللبناني جبّور الدويهي (1949 - 2021) قرّاءهُ أكثر دروس الحرب الأهلية اللبنانية إنسانيّة بما تركهُ في رواياتهِ، التي على الرغم من كونها تحدث في بيئة صراعاتٍ واقتتال، إلّا أنّه استخلص منها ما هو مشترك وإنساني، واحتفى بقيم الصداقة والحُبّ والسلام.
كتابة الدويهي نسيجٌ منتزعٌ من الحياة اللبنانية ومتآلفٌ معها بكلّ تشعّباتها وتعقيداتها في بلدٍ يعيشُ على حافة الانفجار دائماً. بالتالي، يظهر أشخاصه بصورةِ أنّهم على أَهبّة الرحيل. على الرغم من ارتباطهم بالمكان، فهم يرحلون، لكنّهم يعودون بصورةٍ محتّمة، إذ لا يقوون على مغادرة المكان، فهو مثلهم، هشُّ ويحتاج إلى من يسانده، إلى من يدعمه ويتمسّك بهِ، ويقتتل عليهِ، وقد أورثهم المكان آفاته ذاتها، أو أنّ البشر هم من تبادلوا عصابيتهم مع الأمكنة. فهم إمّا عائدون إلى لبنان يبحثون عن ملكية قديمة، عن مجد قديم آفل، أو يتجوّلون بين الفنادق يبحثون عن الحُبّ، ويمارسونه تعويذةً من أجل الاستمرار.
نجد شخصياته تريد من أعماقها أن تستمر بالعيش، من غير أن تقوى على ذلك، فهي مباحةٌ أمام القتل، مباحةٌ أمام السرقة والجريمة والاستغلال الحزبي. بتلك الرّقّةِ والدِعة رسم الدويهي عالمهُ الروائي، باستخدام شخصيات تعرف وتشعر بكلّ ما يدور من حولها، لكنْ يَشقُّ عليها أن تعترف. قبل أن يفضحها الروائي بمشاهد احتفالية، تذكي الموت والجنس والفراق.
نسيجٌ روائي منتزَعٌ من الحياة اللبنانية ومتآلفٌ معها
تمثل روايتهُ "شريد المنازل" (2010) رواية نموذجية عن الحرب الأهلية اللبنانية، فنظام، الشخصية الأساسية في الرواية، من غير دين على الهوية، مسلم بالولادة ومسيحي بالعمادة بعدما نشأ في كنف عائلة مسيحية. أحاطت العائلةُ المسيحية الطفلَ المسلم بالحُبّ والرعاية، وعندما نزل كي يدرس في بيروت، جعل الدويهي من شقّتهِ المُستأجرة مختبراً لكلّ التناقضات التي عرفها جيله، ولاحقاً فجّرت الحرب. كان نظام يحمل سلسلتين في رقبتهِ؛ واحدة تشير إلى انتمائه المسيحي، وأُخرى إلى انتمائه الإسلامي. بذلك فهو يسخر من الهويات. عندما يفقد نظام أوراقه الثبوتية يشعر بأنّه قد تحرّر من زيف الانتماءات، لكنّه سوف يُقتَل ما إن يَخرج عن انتماءات الحرب.
يخبرنا الدويهي عن استحالة النجاة من الحرب بالنسبة إلى من بقي في لبنان. إذ حتى تلك الحالة النّادرة التي رسمها في روايتهِ على نحو محكم وآسر، كانت صورةً لبيروت المشتهاة التي ما لبثت أن غرقت في أتون الاقتتال. كما يشيرُ إلى قدرة البشر على إلغاء بعضهم، ويجعل من موتِ المثال/ نظام إذعاناً للكراهية والعصبيات.
في روايتهِ "عين ورده" (2002) أيضاً يتحدّث الدويهي عن وقف درزي عالق، ملكيتهُ ضائعة بين العائلات. فالمنزل إرثٌ يَختَصِم عليهِ مُلّاكهُ، ويدلّ عليه الراوي باستخدام إشارةٍ طرقية إلى أنّ الطريق إليهِ "لا يؤدي إلى مكان"، يترك الدويهي ذلك اللامكان الذي تتنازع عليهِ الشخصيات مسرحاً لبناء شخصية منعزلة وغريبة، وهي شخصية رضا، ويعرض باستخدامهِ قصّة حبّ عذري متينة تنمو عبر القراءات المتبادلة للكتب والاتصالات المتباعدة، ثمّ تغيب في ظلال الحرب. كما يشهد المنزل، اللامكان، الذي هو لبنان، نزاعاتٍ انتخابية يُستخدَم فيها العرب. وتتأمّل والدة رضا ابنها، الذي فُتّن بفتاةِ العرب أخيراً، مثلما تتأمّل الخراب.
إنّ رضا مثالٌ عن استخدام الدويهي للبشر، بتلقائية، كي يصف حَالَ الأمكنة ومآلاتها. ويؤكد الروائي اللبناني في أكثر من مناسبة على أنّه يكتب عمّا يعرف. كما لو أنّه كتب عن أمكنة ألف خرابها، وعرفها عن كثب من غير أن يقوى على المغادرة... أمّا عن الحرب فأبلغ مشاهدها؛ تصويره المجتمعين قرب المذياع وهم يسترقون السمع على مكالمة أُمّ ترجو من ابنها أن يقاوم الموت.
هكذا تحضرُ الحرب في روايات الدويهي، في ترقّب من يراقبها تقترب منه، في ترقّب قلقٍ يجعل من الشخصيات مسلوبة وطيّعة إزاء مصائرها. في روايتهِ "ملك الهند" (2017) ينقل صراعات شخصياتهِ إلى قطعة أرض، أيضاً زكريا سوف ينتهي مقتولاً أو منتحراً، لا يؤكّد لنا الدويهي أيّهما، إذ بعد عودة زكريا من المهجر إلى لبنان الذي يحبّ يدخل شرك الخصام اللبناني الذي تحمله الطوائف والعائلات. إذاً؛ الدويهي يصنع أبطالاً جميلين، لا يمكن للقارئ ألّا يغرم بهم، ثمّ بعد ذلك يقتلهم، من غير أن ينجح الحُبّ الذي كلّلهم بهِ في أن يكون شفيعاً لهم.
يتّكئ الروائي اللبناني على الوقائع التاريخية كي يبني نصوصاً متخيّلة، مثل واقعة الاقتتال المسيحي- المسيحي إثر توتّر انتخابي سنة 1957، الحادثة التي بنى عليها روايته "مطر حزيران" (2006) ويقول إنّها بروفة للحرب الأهلية التي لن تتأخّر في المجيء. غير أنّ الدويهي يبقى رهيناً للواقع، ويصنع النهايات التي يصنعها الواقع. هو فقط يرافق الأحداث، يُظهِرُها، ويدفع بها إلى نسيج الكتابة المتخيَّل باستخدامِ لغةٍ مشهودٍ لها؛ لغتهُ منسابة، جمله سلسة ومفرداته بسيطة، نصه يخلو من الزخرفة والتكلّف، مباشرٌ وحميمي وعذب.
نصُّه يخلو من الزخرفة والتكلّف، مباشرٌ وحميمي وعذب
للدويهي روايات عديدة كانت الحرب فضاءً لها، وقد اعتبر أنّه اقتصّ من الحرب بالكتابة عنها. واعتبر أيضاً أنّ الكتابة تتغذّى على صراع الهويات الذي ينشأ من نظرةِ جماعة إلى أُخرى. وضمن ما يدعوه صاحب "حي الأمريكان" (2014) "متحف العصبيات" نراه منشغلاً باللحاق بالإنسان، كي يخرجه عن إرادة الجماعة التي تدفع بالأفراد إلى الهلاك لتستمر عنفة الموت بالدوران. ليقف الدويهي بحصيلتهِ الروائية في مقابل ذلك الموت الذي حضّرتهُ الجماعات لأبنائها.
يحمل جبور الدويهي إجازة بالأدب الفرنسي ودكتوراه في الأدب المقارن، وقد عمل لسنوات أستاذاً للأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، كما ترجم العديد من الأعمال الفرنسية إلى العربية. وأشرف لدورتين على ورشة "آفاق" للكتابة الروائية التي خرّجت عدداً من الأسماء العربية. ومن أعمالهِ "الموت بين الأهل نعاس" (1990)، و"اعتدال الخريف" (1995)، و"ريا النهر" (1998)، و"طبع في بيروت" (2016)، كما صدرت له بالفرنسية قصة للأطفال "روح الغابة"(2001). حاز على عددٍ من الجوائز، وتُرجمت أعماله إلى عددٍ من اللغات. كما صدرت له حديثاً عن "دار الساقي" روايتهُ الأخيرة "سمٌ في الهواء".
* كاتب من سورية