تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثالث من شباط/ فبراير، ذكرى ميلاد القاص والروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله (1913 – 1970).
في كتابه "الوجه الآخر"، يشير محمد عبد الحليم عبد الله الذي تمّر اليوم الأربعاء ذكرى ميلاده، إلى أن أول موضوع إنشاء كتبه ولا يزال يذكره ويعتزّ به خلال المرحلة الثانوية، كان عنوانه "حوار بين قاضٍ يعتز بمهنته، ومحامٍ يعتزّ بحرية عمله"، في محاولة أولى منه لفهم الجدل بين الأضداد وطبيعة الصراع والتكامل بينهما.
ينتمي القاص والروائي المصري (1913 – 1970) إلى جيل سعى إلى تحديث السرد وتوطينه في الأدب العربي ضمن أدواته ومعارفه في تلك الفترة، وضمّ نجيب محفوظ ويوسف السباعي وعبد الحميد جودة السحار وصلاح ذهني وآخرين، لكن الاعتراف بأثر ما قدّموه أتى متأخراً نسبياً بسبب هيمنة الجيل السابق على المشهد الثقافي، ولم تنل تجارب بعضهم حظها من الدرس والتحليل مثلما حدث مع عبد الحليم عبد الله.
نقع على تأثير نشأته وسيرة حياته في الشخصيات التي نسجها في رواياته الثلاث عشرة
قدّم صاحب رواية "الباحث عن الحقيقة" نصوصه الأولى مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، واتسمت برؤية رومانسية تجاه الحدث والواقع، ثم انتقل مع عدد من مجايليه بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) إلى تقديم أعمالٍ تهتمّ بالمضامين الاجتماعية ضمن المدرسة الواقعية التي سادت آنذاك، كما في رواياته "الجنة العذراء" و"البيت الصامت" وغيرهما.
غير أن واقعية محمد عبد الحليم عبد الله انتقدها العديد من الدارسين بسبب عدم تقديمه شخصياته وفق مستويات متفاوتة في لغتها، وهو الذي أصرّ على استخدام اللغة الفصيحة دون أيّة انزياحات نحو الدارجة المصرية كما فعل معظم كتّاب زمنه، لكنه فهِم الواقعية من خلال تقديمه مضامين وآراء شخصياته على نحو مختلف بما يتوافق مع خلفياتها الاجتماعية والثقافية وموقعها في مجتمعها.
وُلد صاحب المجموعة القصصية "الماضي لا يعود" في قرية كفر بولين بمحافظة البحيرة لعائلة فقيرة، وكان انتقاله إلى القاهرة للدراسة في "تجهيزية دار العلوم" سنة 1928 حدثاً كبيراً، استحق أن يكتب حوله أفكاراً عديدة بمشاعر متدفقة بعد سنوات طويلة تفصلها عنه، إذ كان مهموماً بأن يصبح ذاك الرجل الناجح الذي تطمح أمّه إلى أن يكون، وقاوم فقره وبؤس الواقع على أمل أن يحقّق وعده لها، وهو ما حدث فعلاً، لكن ذلك لم يخفّف من وطأة شعور بالسحق والتهميش.
ركّز في تجربته على الاختلالات الطبقية والأزمات الاجتماعية والسياسية التي تعصف بالمجتمع
نقع على تأثير نشأته وسيرة حياته في الشخصيات التي نسجها في رواياته الثلاث عشرة، فهي في معظمها تعاني الفقر المدقع والحرمان العاطفي ومحاولة الدفاع عن كرامتها وشرفها، وهو ظلّ مثل معظم الروائيين والكتّاب الآتين من الأرياف إلى القاهرة يعيش شكلاً من أشكال الاغتراب لم يغادر أعماله، ما يبرّر تلك المثالية التي تتسم بها هذه الشخصيات في التعامل مع واقعها.
منذ روايته الأولى "لقيطة" (1947)، تواجه عبد الحليم عبد الله مع الواقع عبر تناوله حادثة عاشتها قريته حين عثر أهلها على طفلة أُودعت على قارعة الطريق، ليطرح تساؤلاً أساسياً ربما لم تجب عنه معظم المجتمعات العربية إلى اليوم، ويتصل بالقدرة على دمج فئات من المهمّشين، وفي مقدّمتهم اللقطاء، وقد تحوّلت إلى فيلم بعنوان "ليلة غرام" (1951) من إخراج أحمد بدرخان، ليكون فاتحة لتصبح رواياته وقصصه مادة جذّابة للسينما المصرية.
تطوّرت بنية الصراع في أعماله التي كُتبت بعد منتصف الخمسينيات، حيث باتت شخصياته - التي تسعى إلى الخروج من فقرها، وأزماتها الاجتماعية التي تولد واحدة من رحم أخرى - تبدو أكثر استجابة لطبيعة الصراع الاجتماعي واشتراطات الواقع بعيداً عن تلك المسحة الرومانسية التي خفتت كثيراً، لكن شيئاً منها لم يفارق صاحبها ونصوصه حتى رحيله.
ركّز عبد الحليم عبد الله في تجربته على الاختلالات الطبقية والأزمات الاجتماعية والسياسية التي تعصف بالمجتمع المصري، وكان معنياً بإظهار انعكاسات ذلك على أبناء طبقته الكادحة التي ينتمي إليها في اضطراباتهم النفسية، وصولاً إلى حالات العجز واليأس التي تنتابهم. وبالطبع لم يغب شعوره المكثّف بالغربة عن واقعه والمدينة التي أصبحت مكان إقامته الدائمة، بينما روحه لا تزال ترفرف في فردوس مفقود، وفي هذا التصدّع الكبير وُلد أدبه بما يحويه من صدمات وتشوّهات.