تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، العشرون من حزيران/ يونيو، ذكرى ميلاد الباحث المصري شاكر عبد الحميد (1952 – 2021).
في كتابه "الأدب والجنون" (1993)، قارب شاكر عبد الحميد الذي تحلّ اليوم الأحد ذكرى مولده أنماطاً من محاولات بعض الكتّاب لتصوير الاضطراب العقلي، فمنهم من سعى لاكتشاف أعماق الذات الإنسانية، وكذلك خفايا المجتمع ومظاهر تدهوره وانحلاله، وأيضاً المتناقضات التي تضطرم في أعماقه وتظهر آثارها على سطحه، كما في أعمال دوستويفسكي وشكسبير.
ويرى الباحث المصري (1952 – 2021) أن الجنون كان كوسيلة لحماية الذات من متناقضاتها وصراعاتها، وكذلك حمايتها من مظاهر التهديد الخارجية المتربصة بها في البيئة المحيطة بها، مثلما تعكسها أعمال سترندبرغ حيث الاهتمام بالجنون يكشف في حالات كثيرة مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والفنية السائدة في فترة معينة من الزمن، وعكس أيضاً وجهة نظر الكاتب في هذه القضايا.
ويوضّح عبد الحميد كيف ارتبط الإبداع الأدبي عبر فترة طويلة من التاريخ، وربما حتى الآن، في أذهان الكثيرين بالسلوك اللاعقلاني الذي لا يتضمّن فقط سلوك المرضى العقليين، بل يتضمّن أيضاً أي سلوك مضاد ومناقض، مثل السلوك الذي يصدر من السكارى والمجرمين والأطفال والمتوحّشين والمعتوهين والمجانين، ومن بين هؤلاء احتلّ المجنون مكاناً متمايزاً وموقعاً مركزياً، وظلّ المصطلح يوحي بحالة أكثر اتساعاً من العقل غير المنظّم، وكان المصطلح طيّعاً فضفاضاً، بحيث استُخدِم ليعني العديد من المعاني الواسعة والمجازية.
شكّلت دراسته للحلم والرمز والأسطورة والجنون والغرابة مدخلاً لتحليل النصوص الأدبية
وينبّه أيضاً إلى وجود مدرستين فكريتين حول العلاقة بين ظاهرتي الإبداع والمرض، إحداهما ترفض العلاقة بينهما، والأخرى تؤكّدها، مستعينة بالتشابه بين الاضطراب العقلي أو الهذيان وحالة الحلم، وأن المنهج العلمي لا يؤدي بالضرورة إلى افتراض علاقة متلازمة بينهما، وهو ما يميل إليه الكتاب مع الإشارة إلى وجود العديد من الشواهد عبر تاريخ الفن التي تنفي ذلك.
انصبّ اهتمام عبد الحميد في الاستفادة من التحليل النفسي في قراءاته الثقافية والنقدية منذ تقديمه أطروحة الماجستير تحت عنوان "الأسس النفسية للإبداع الأدبي، في القصة القصيرة خاصة" عام 1980 التي أشرف عليها عالم النفس المصري مصطفى سويف (1924 – 2016)، ثم ترجم كتاب "الدراسة النفسية للأدب، النقائص، والاحتمالات والإنجازات" لمارتن لينداور، الذي اعتبر مؤلّفاً أساسياً في هذا المجال الذي تندر فيه الدراسات العربية.
وشكّلت دراسته للحلم والرمز والأسطورة، والجنون والغرابة والاضطراب النفسي مدخلاً لتحليل النصوص الأدبية وتأويلها تأويلاً نفسياً، واستطاع من خلال ذلك أن يقدّم تصورات جديدة للأدب والفن من خلالها الإفادة بحقول العلوم الاجتماعية والإنسانية، وعكف على تحليل العديد من الظواهر مثل انتحار المبدعين، لكن معظم النماذج التي تناولها كانت لكتّاب وفنانين غربيين بسبب توافر مؤلّفات متعدّدة عن سيرهم الذاتية وسجلات مرضهم النفسي، خلافاً للواقع العربي.
وتناول في كتابه "الجنون المقدس" حالة انتحار الفنان الهولندي فان غوخ عبر دراسة العلاقات الموجودة بين إحساسات الخوف والفزع والرعب، والإحساس بالغرابة، فضلاً عن اشتغاله على مفهوم الذات وتطورها نحو السواء أو التفكّك والاختلال والمرض، وأيضاً الجذور الفلسفية والسيكولوجية والأدبية لفكرة الازدواج.
من بين مؤلّفاته: "العملية الإبداعية في التصوير" (1987)، و"الطفولة والإبداع" (خمسة مجلدات/ 1989)، و"الحلم والرمز والأسطورة" (1998)، و"التفضيل الجمالي ـ دراسة في سيكولوجية التذوق الفني" (2000)، و"الفكاهة والضحك" (2003)، و"الفنون البصرية وعبقرية الإدراك" (2007)، و"الغرابة المفهوم وتجلياته في الأدب" (2012)، و"الحلم والكيمياء والكتابة - في عالم محمد عفيفي مطر" (2017)، إلى جانب مجموعة من الكتب المترجمة مثل "الأسطورة والمعنى" لـ كلود ليفى شتراوس، و"بيولوجيا السلوك الديني: الجذور التطورية للإيمان والدين" لـ جي. آر فيرمان.