تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثالث والعشرون من تشرين الثاني/ نوفمبر، ذكرى ميلاد المخرج السينمائي المصري داوود عبد السيد (1946).
في فيلمه الروائي الأوّل "الصعاليك" (1985)، تناول داوود عبد السيد تحوّلات بطليه اللذين جمعتمها صداقة قديمة وثيقة في أيام فقرهما قبل أن تتغيّر الأحوال، لتنتهي الصداقة مع تبدّل القيم وانحطاطها المستمر في المجتمع، ورغم أهمية الأحداث ومسارها إلا أن الفيلم انشغل بمقاربة تحوّلات "الصعلكة" كمفهوم وممارسة بين زمنين، وباستيعاب الشر كمحرّك أساسي للنفس البشرية، وغيرها من التساؤلات الوجودية.
تشارك المخرج السينمائي المصري (1946) مع رفاقه من صنّاع سينما الواقعية الجديدة مثل محمد خان ورأفت الميهي وعاطف الطيب وخيري بشارة في مصر بتقديم أعمال لا تستند إلى الحبكة التقليدية التي طغت لعقود طويلة، وفي الخروج من الاستوديو إلى الشارع، ومواجهة تابوهات كانت شبه غائبة عن الشاشة الفضية في مصر.
تميّز عبد السيد بين هؤلاء جميعاً لأسباب مهمّة، في مقدّمتها أن الواقع الذي رسمه داخل الكادر أتى حصيلة تراكم خبرة طويلة واستثنائية، حيث أمضى خمسة عشر عاماً في إخراج أفلام تسجيلية كتب هو نصوصها، كما فعل لاحقاً بمعظم أفلامه الروائية، وذهب بنفسه لتصويرها وإنتاجها من الألف إلى الياء، في مغامرة كُتب لها النجاح بعد طول تعثّر.
أمضى خمسة عشر عاماً في إخراج أفلام تسجيلية كتب هو نصوصها، كما فعل لاحقاً بمعظم أفلامه الروائية
"وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" عنوان فيلمه التسجيلي الذي أُنتج عام 1976، ويوثّق فيه تاريخ محو الأمية في مصر منذ الاحتلال البريطاني ومروراً بالحقبة الناصرية وصولاً إلى سبعينيات القرن الماضي، غير متجاهل للأبعاد السياسية والاجتماعية التي حكمت عملية التنمية، ليخلص إلى أن الأميّة بقيت رغم محوها بوسائل مختلفة، وبالطريقة نفسها أخرج فيلمين تسجيليين آخرين هما "العمل في الحقل" (1979)، و"عن الناس والأنبياء والفنانين" (1980).
بعد فيلم "الصعاليك"، صمت عبد السيد قرابة خمس سنوات قبل أن يخرج فيلمه "البحث عن سيد مرزوق" عام 1990، وهذا ليس غريباً عن مخرج يمضي وقتاً طويلاً في كتابة سيناريو مغاير لا يجد منتجاً متحمساً لإنتاجه بسهولة، وفيه يقترب بالواقع إلى منطقة الكوابيس والأحلام المضطربة التي لا تغادر معظم أبطال أفلامه، وتضيف مزيداً من العناصر اللاواقعية إليها.
ربما كان فيلمه "الكيت كات" الذي أنتج في الفترة ذاتها مقتبساً عن رواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان الأكثر انتشاراً وجماهيرية، قياساً ببقية أعماله التي توصف بأنها نخبوية و"أفلام مهرجانات"، حيث لا يزال الناس يحتفظون بمقولات الفنان الراحل محمود عبد العزيز في تأديته شخصية الشيخ الضرير حسني، الذي فشل في دراسته بالأزهر، وفي أن يصبح منشداً، وأدمن تدخين الحشيش الذي اضطره إلى بيع بيته، كما يضيء علاقته بابنه الذي يعيش كل إحباطات الواقع ويحلم بالهجرة.
نجح عبد السيد في الوقوف عند المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع اختلاف الحقب االزمنية التي تناولها، لكنه ظلّ منحازاً للقصة الإنسانية التي غلبت على رغبته في تقديم الأحداث والواقائع، كما في أفلام "سارق الفرح" (1995)، و"أرض الخوف" (2000)، و"مواطن ومخبر وحرامي" (2001)، و"رسائل البحر" (2010)، و"قدرات غير عادية" (2015)، محاولاً فهم قدر الإنسان وحريته لكن بصورة مختلفة في كلّ مرّة.