"دوائر العميان" لمصطفى موسى.. ما وراء الواقع

18 اغسطس 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- **مبحث أنثروبولوجي في مالي**: تستعرض الرواية جغرافيا مالي وعشائرها وتقاليدها وثقافاتها بدقة، مما يجعلها وثيقة حية عن هذا العالم الأفريقي.
- **حكايات وشخصيات متشابكة**: تتلاحق في الرواية حكايات متعددة وشخصيات تتقاطع في واقع له تركيبه الخاص، بدءاً من الفقهاء والدراويش إلى الحروب والنزاعات القبلية.
- **تفاعل التاريخ والواقع**: تعكس الرواية حراك المجتمع وتحوّلاته، متداخلة مع الإرث والتقليد، مما يجعلها مرآة متعددة الأوجه للواقع الأفريقي.

"دوائر العميان" عنوان رواية للكاتب المصري مصطفى موسى. ما يدعوني إلى التشديد على مصرية الرواية هو أنّ الرواية، التي تكاد تكون مبحثاً أنثروبولوجياً، والتي تنمّ عن معرفة عميقة بعالمٍ أفريقي ركيزته مالي باسمها هذا الذي صار لها اليوم. نحن في الرواية نمخر وسط جغرافيتها وعشائرها وتقاليدها وثقافاتها وواحاتها وأجوائها. نمخر في هذا العباب بدقّة مرسومة، خطوةً فوق خطوة، بحيث لا نجادل في أنّ الرواية تصدر عن هذا العالم، بل تبدو من رجعه وصداه وعبارته وأشيائه.

قد تكون هذه القربى الحميمة أجلى ما فيها، وقد تكون مناخاً وجوّاً وبناءً من خلاصاتها. نقرأ أفريقيا والساحل الأفريقي في هذه الرواية (دار نوفل، 2022)، فلا نرتاب في أنّنا من الصميم منها، وأنّها بحقّ درس بل وثيقة عنها. الأرجح أنّ ما يستلفتنا في الرواية يضلّ بدرجة أُولى هذا العالم، الذي يفاجئ ولا يفاجئ، وله في الحالين اختلافه وخصوصيته، وله هذا الصدى الذي يمتدّ عبر تاريخه ويتوالى فيه، ويبني مرحلة على مرحلة، وحقبة على غيرها، ما هو حقيقته ولعنة تاريخه.

لا يمكننا في هذه العجالة أن نختصر الرواية، التي تتلاحق حكاياها، وتتناوب شخصياتها في قصص بلا عدد، تتقاطع ولا تتقاطع، لكنّنا نظلّ، على طول ذلك، في إحساس بأنّها تجتمع وتتخاطب وتتجاوب وترتصف في واقع له تركيبه، وله زمنه، وله بنيانه ورجعه. في البداية التي تصدر، كما يتراءى، عن حقيقة لها وزن التاريخ.

نعثر على الفقهاء والدراويش، هذا واقع لا نجهله، لكنّنا قلّما نبدأ منه، بل قلّما نرى فيه تاريخاً. إنّنا، إذ ندخل إلى عالم الفقهاء والدراويش، نفهم أنّ هذا لن يكون جانبياً ولا هامشاً فحسب. نفهم أنّ هذه المقابلة، بل هذا التعاكس، ليسا شبحيّين ولا مجرّد ظلال. سرعان ما ننفذ منهما إلى عالم يصل بسرعة إلى الحروب والدول والنزاعات القبلية، من دون أن يحول الأصل البدوي دون قيام مشروع اجتماعي، بل دون قيام دولة لها هيمنتها ونظامها.

لا نقرأ سيَر أشخاص منظورين أو هامشيّين فحسب، بل حراك مجتمع وتحوّلاته

نواجه الدراويش والفقهاء وإن كنّا نترسّم أكثر حراك الفقهاء، الذين لهم ضلع في مشروع الدولة وفي بنيانها. الفقهاء ليسوا فقط درجات في السلطة، درجات لا تخلو من تنافس وتنازع، لكن لهم أيضاً سيَرٌ شخصية، لها شطحها ومبالغاتها. لا نستغرب أن نرى الفقيه يسطو على الحدّاد، ويحرمه من زوجته، ثم نحن لا ندين الحدّاد ذا العين الواحدة، ونحن نراه يترصّد الفقيه من مكان إلى آخر، إلى أن تسمح له الظروف بأن يغرس خنجره في هامته. هكذا نرى أيضاً فقيهاً زائفاً، قد يكون بطل الرواية أو أحد أبطالها. نستطيع أن نراه يرقى من السجن الذي دخله من دون ذنب يُذكر، إلى وظيفة قاضي الدولة، ويغدو صهراً لركن فيها، إلى أن يعود منفياً إلى واحة، بعد أن مدّ يد المساعدة لمن غصبه امرأته، حين كان الاثنان في الواحة الأُولى.

نحن هكذا لا نقرأ سيَر أشخاص منظورين أو هامشيّين فحسب، لكنّنا نقرأ حراك مجتمع وتحوّلاته، بل نشعر بالتاريخ ينفذ من بنيانه، من دون أن يحوّل فيه إلّا ما يتراكب في الزمن والثقافة والإرث والتقليد. هكذا نُفاجأ في واحد من مناحي الرواية، بكلام عن قطارات وحتى عن طاقة شمسية، هكذا نشعر بظلّ العصر، لكن بما يتقاطع مع الإرث والتقليد.

يمكننا هكذا أن نقرأ تاريخاً، لكن نترسّمه وهو ينفرط إلى سلسلة من الحكايا، نقرأ تاريخاً من دون أن يكون له نموذجه، ومن دون أن يكون له مساره. لسنا هكذا أمام تاريخ من أيّ نوع، أو نظر ما إلى التاريخ. إنّنا أمام بساط تاريخي، أمام تفاعل وحركة مبعثرة وسلسلة من الحكايا، التي تنقل نبض الواقع من حي إلى حي، ومن بيت إلى بيت.

هكذا لا نستغرب دوائر العميان، بل نشعر أن شتاتها وحكاياها نابضة بما يلتمع وينعقد في أطراف الواقع وتفاصيله، وبما يبدو من بعيد، تلاحماً، بل تماسّ بين الحكايا وما بعدها، وما تُطلّ عليه ويصدر عنها، ربما لذلك يغدو الواقع ساخناً وحارّاً، أي يبدو نفسه أكثر فأكثر.

لذا لا يفاجئنا مثلاً أن نرى هذه البداوة عامرة بالفضائح، فإلى جانب الدراويش والفقهاء هناك الغانيات وهناك الدعارة المفتوحة، هكذا يسعنا أن نجد الواقع بأكثر من وجه، وبأكثر من مناخ.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون