المُتتبّع لحالة النفاق، أو التأييد الحقيقي، في الموقف الأوروبي تجاه عدوان "إسرائيل" على غزّة، قد يستنتج أنّ انهياراً تامّاً للإيمان بالقيم والمبادئ التي أُرسيت عليها المدنية الحديثة يشهده عالمُنا المعاصر. يمكن أن نلاحظ هذا في كثير من مقالات الصحافة العربية، التي لا تكتفي بالتنديد بالكذب الذي مورس من قبل حكومات الغرب، وإعلامه، وبعض كتّابه، حول حرية التعبير، وحقوق الإنسان، وحقّ الشعوب في تقرير المصير، ونهاية الاستعمار، بل بالمبادئ ذاتها.
تهاجَم الديموقراطية لأنّ الغرب الذي صدّرها إلى العالم ينتهكها. يطاول الهجوم حرية التعبير الذي يمارَس وفق طريقة الكيل بمكيالين، وشرعة حقوق الإنسان، والانتخابات، ومبدأ فصل السلطات.
أي إنّ أهمّ أكثر المبادئ التي توصَّلت إليها البشرية، عدالة وإنسانية وأخلاقية، تُستبعد من برنامج النهوض العربي لمواجهة الصهيونية، والمشروع الإسرائيلي، وذلك نكاية في غربٍ يؤيّد "إسرائيل".
واللافت في كلّ المطالعات العربية الداعية إلى مقاطعة مبادئ الغرب، أنّ "المُنظّرين" العرب يستخدمون لغة مستلّة في معظمها من مصطلحات الغرب: الخطاب، والسرد، والسردية، والإبادة الجماعية، والتفرقة العنصرية، والأعراق... وغيرها.
ليست قيَم الغرب عدوّتنا بل قادتُه، وليست هي من أوجد "إسرائيل"
هل يؤيّد الغربُ "إسرائيل" فعلاً؟ أمّا "القادة"، فلم يُخفِ أحدٌ منهم انحيازه إلى "إسرائيل"، غير عابئين بأيّ قيمة أخلاقية، وجاراهم في ذلك كتّاب عرب، تخلّوا عن ضميرهم الإنساني مقابل أن يرضى عنهم نظام تربيح رأسمالي. ولكن يمكن اعتبار الشهرين الماضيين اللذين ارتكب فيهما الصهاينة مجازر ضدّ غزّة وأهل غزّة، شاهداً على تحوُّلٍ ما في رأي الغرب تجاه القضية الفلسطينية أوّلاً، وهو موقف أو رأي تجلّى بكلّ قوّة في المظاهرات الضخمة التي قادها شبّان وشابّات "غربيون"، منادين بسقوط الصهيونية، واستعادوا أغنية سويدية تهتف لفلسطين، عمرها أكثر من خمسين سنة، ونشروها في شوارع أوروبا وأميركا، ولم تستطع أكبر حصون الإعلام في الغرب أن تدافع عن السلوك الإجرامي الوحشي للصهاينة في غزّة، إلا بترديد لغتهم، أي لغة الإبادة والقتل والتدمير، ولم يكن بوسعها أن تستعيد للحظة واحدة أيّ مفردة من لغة الإنسانية، لغة الرحمة والتعايش والتفهّم والتنوّع والتعدّد الثقافي، وغيرها من المفردات التي شكّلت إنسانية الإنسان في الشرق والغرب.
ليست قيم الغرب عدوّتنا، بل قادة الغرب، وليست قيم الغرب من أوجد "إسرائيل"، بل أكثر التوجّهات حقارة في تفكير قادة الغرب، وإذا شئنا أكثر فإنّ الغرب نفسه، ممثَّلاً في شعوبه ومفكّريه الأحرار، سأل الغرب الآخر الحاكِم عن القيم والمبادئ، وربّما كان السؤال لدى المفكِّرين والفلاسفة في الغرب أكثر عمقاً وجدّية بسبب المواجهة التي وجدوا أنفسهم يخوضونها ضدّ أولئك الساسة الذين يرغبون، بين مرحلة وأُخرى، في الانقضاض عليها، وحرمان الشعوب إمكاناتها التي تعوق "حريتهم" في التحرّك المبني على مصالح الرأسماليّين الكبار.
الدفاع عن الديمقراطية في بلادنا، أو حرية التعبير، أو الانتخابات النزيهة، أو فصل السلطات، حاجة حياتية تضمن لنا العيش الكريم بعيداً عن سلوك الأنظمة التي تهدر كرامة الإنسان العربي، والإخلاص للديمقراطية يعني أن نملأها، فيما لو استطعنا تطبيقها يوماً ما، بمضمون إنساني يناسب حياتنا المحرومة كلّ هذه الممارسات الإنسانية.
* روائي من سورية