تعكس كتابات دانتي أليغييري ــ الذي يمرّ اليوم الثلاثاء سبعمئة عام على رحيله ــ موقفاً مغايراً للثقافة السائدة في عصره على مستويات عديدة، فهو يعدّ من أوائل الذين كتبوا بلهجاتهم العامّية أدباً في مرحلة كان معظم الشعر مكتوباً باللاتينية، كما أنه خاض صراعاً طويلاً ضدّ الإمبراطور ودعا إلى تحجيم تدخلّه في شؤون المدن الإيطالية لتمتّع بحكم لا مركزي.
في عمله الأبرز، "الكوميديا الإلهية"، عبّر الشاعر والفيلسوف الإيطالي (1265 – 1321) بوضوح عن الاغتراب عن عصره الذي شبّهه بالغابة المظلمة، وبضياع الطريق الصحيح بسبب إخضاع السلطة للناس وتقييدهم، حيث تستعاد مقاطع عديدة منها في اللحظة الراهنة لوصف حالة التيه التي تعيشها البشرية في ظلّ تنامي التيارات اليمينية المتطرّفة.
حين أخفق دانتي في السياسة بعد انتخابه في الهيئة الحاكمة لمدينته فلورنسا إثر انقسامات عديدة بين أنصاره، تمّ نفيه لمدى الحياة عنها بعد رفضه دفع غرامة بسبب اتّهامه زوراً بالفساد والتجاوزات المالية، وهناك تعمّق إحساسه بعدم اليقين، الذي يمكن تلمسّه عندما يتحدّث في الفصل الأخير من "الكوميديا" عن بياتريس التي تأخذه إلى الجنة، وهناك يرى الشاعر اللاتيني فيرجيل، دليله الذي قاده في الجحيم والمطهر، والمعرفة والعقل، والحكمة، ممنوعاً من دخول البوابات اللؤلؤية للفردوس لأنه وثني.
بلاغة العامّية التي نظّر لها دانتي مبكّراً خلال القرن الثالث عشر ستلهم كتّاباً عديدين في أوروبا
وفيرجيل أخبره أيضاً بأن ترتيب هذا المكان الكئيب للعقاب الأبدي؛ يقصد الجحيم، يأخذ شكله من التصنيف الأخلاقي للحياة البشرية الذي اقترحه أرسطو في كتابيه "الأخلاق" و"الفيزياء" وليس في الكتاب المقدّس، وبذلك تتبيّن رؤيته للعقاب الإلهي التي تُناقض المفهوم المسيحي بطريقة واعية لذاتها.
بدت "الكوميديا الإلهية" نصّاً استثنائياً تمكّن من خلاله دانتي أن يدمج بين موضوعات دينية وأخرى فلسفية وسياسية لم تكن رائجة آنذاك، وأن يمزج في أشعاره بين الخاص والعام، ويضع آراءه الشخصية والنقدية تجاه العديد من الشخصيات التاريخية، وكذلك شخضيات عاصرته، ما جعل تأثيرها يتواصل على العديد من الكتّاب الأوروبيين من أمثال جيفري تشوسر وجيمس جويس وت. س. إيليوت وأوسكار وايلد وغيرهم.
كما أن مغامرته بالكتابة باللغة التوسكانية المحلّية تبقى مسألة جديرة بالدرس، حين قرّر صاحب كتاب "الحياة الجديدة" (فيتا نووفا) أن يكتب بها ويطلق عليها "اللغة الإيطالية"، مؤكّداً أنها ستشّع نوراً يضاهي اللاتينية؛ اللغة الرسمية للبلد حينذاك، لأن رأى أن لغته الأم يمكن أن تصل للجميع بينما لا يفهم اللاتينية سوى النخبة، ما دفع العديد من الكتّاب المجايلين له إلى الاستمرار على نهجه، وصولاً إلى اعتماد التوسكانية لغة موحّدة لجميع مقاطعات إيطاليا قبل نحو قرن ونصف، بعد أن سادت لغات عديدة.
بلاغة العامّية التي نظّر إليها دانتي مبكراً خلال القرن الثالث عشر ستلهم كتّاباً من بلدان أوروبية لاستعارة فكرته، التي استندت إلى رؤية ثقافية وسياسية تنظر إلى اللاتينية كلغة شمولية تكرس سيطرة الإمبراطورية الرومانية، في لحظة صعود مدن إيطالية ستؤسّس ممالكَ مستقلّة مزدهرة اقتصادياً سيكون لها دورها في بزوغ عصر النهضة.
محنة دانتي تجلّت في مؤلّفاته كما في حياته الشخصية، حيث اضطرّ للإقامة في منفاه بمدينة رافينا حتى إصابته بالملاريا التي أدّت إلى رحيله، ليرحل في المنفى، ثم بُني له قير في مدينته فلورنسا عام 1829 بعد استعادة إرثه على يد الحركة الرومانسية في إيطاليا، لكنْ لم تنقل رفاته ولا يزال هذا القبر فارغاً حتى اليوم.