الشاعرُ الذي بين أيدينا له علامات واضحة ومؤثّرة في أدب أميركا اللاتينية والعالم، وقد ذاع صيته عالميّاً كقاصٍ وشاعر ومترجم، وأحسبه، كما حسب نفسه، شاعراً بالدرجةِ الأولى، فهو لا يكادُ يقولُ شيئاً إلا وبهِ مسٌّ من الشعر، حتى ولو كان غارقاً في خضم السردِ والنثر. خورخي لويس بورخيس هو ظاهرة أدبيّة، وُلِدَ في عاصمة الأرجنتين بوينس آيريس عام 1899، ودرس في أوروبا، ورحل في مدينة جنيف بسويسرا عام 1986، وقد جعلت علاقته بالقراءة والكتب ووظيفته مديراً للمكتبة الوطنية في بلاده، الأرجنتين، جعلت جميعُها فكرة المكتبة عنده تسمو فوقَ كلِّ شيء. ومما أُثر عنه جملته الشهيرة: "تخيّلتُ دائماً أن المكتبة ما هي إلا ركنٌ من أركانِ الجنة".
عُرِفَ عن بورخيس أنه فقد بالتدريج قدرته على الإبصار، وإنْ كان حتى الخامسة والعشرين ظلّ قادراً على رؤية بعض الأشياء والألوان، وخصوصاً الأزق والأخضر. سيرة بورخيس الذاتية كنابغةٍ عاش في حواضر مختلفة متنقلّاً بين الأرجنتين بلده الأصلي وموطنه الذي طالما كتب عنه وبين أوروبا بالتحديد؛ حاضرة بصورة لافته في شعرة وكتاباته الموسوعيّة. ويعجبُ المرءُ بقدرته الخارقة على إثراء شعرة بمراجع أدبيّة من ثقافات شتى، أبرزها الأوروبية وخصوصاً اليونانية القديمة واللاتينية والإنكليزية، وكذلك الثقافات الشرقيّة وخصوصاً العربيّة والفارسية والهندية. كما أنَّ شعره غني بالأساطير والإيحاءات المعبّرة من الكتب المقدّسة. وقد شغلت أسئلة وجوديّة تتعلّق بمعنى الوقت، والحياة الميتافيزيقية والاحتكاك بالطبيعة وكذلك حالته النفسية كرجلٍ كفيفٍ، ومعنى الشِّعر أبرز المحاور التي يدورُ حولها شعره.
في القصائد المُترجمة هنا، وهي مستقاة من كتاب "الوردة اللانهائية"، نجدُ تركيزاً دقيقاً على الحالة الوجوديّة والروحيّة للكاتب، حيثُ الدرجة العالية من الشعور والحسِّ المرهف في ماهيّة الأشياء في دواخله ومن حوله. هنا يبدو الشعرُ كبصيرة نافذة، يتحسّسُ من خلالها الطبيعة ومكنوناتها وأصواتها، وكذلك عالم الأفكار والتاريخ كمواد روحيّة محسّوسة وقريبة، وكأنها تخاطب روح الرائي الشاعر، ومن هنا فهناك لمسات حدسيّة عالية في شعرِ بورخيس. إنّه يرى في زواجِ الكلمات المنتقاة بعنايةٍ وحسٍّ رفيع رؤى تجعلُ الأنا تلتحمُ بذاتها شعورياً، وكأنها تفكّك شفرتها وتسبرُ أغوارها نحو فهم ماهيتها المفكّرة، التي تبدو وكأنّها لانهائية. وفي هذا تجاوزٌ للهمّ الجسدي والنفسي المتمثّل بالعمى كإعاقة تحرمُ الإنسان من رؤية الجمالِ بالعين المجرّدة كشيء بصري ملموس.
شيء آخر لا بدَّ أن نشيرَ إليه وهو العمق المعرفي لبورخيس، فلا يكادُ يكونُ هناك سطرٌ شعريٌ إلّا وفيه إيحاءٌ ما إلى شعراء وأدباء آخرين من ثقافات قديمة وحديثة أيضاً. لذلك إذا كان هناكَ شاعرٌ يستحقُ أن يُقالَ إنَّ شعره موسوعيٌ بامتياز فهو بورخيس. فشعره كما قصّصه يمثّل حقاً مفهوم المكتبة، التي تتطلبُ سعيّاً وراء محتوياتها للنيل منها معرفةً وحسّاً قدر الإمكان.
وأخيراً لا نستطيعُ أن نتحدثَ عن شاعرِ الفكر العميق والإحساس الرهيف دون أن نعرجَ على بعضِ أخطائه وسقطاته، كتأييده الديكتاتورية في بلده، وعلاقته بدولة الاحتلال الصهيوني، متجاهلاً الشعب الفلسطيني وعذاباته على أيدي عصابة مجرمة. ومن الجوائز الكثيرة التي حصل عليها كانت "جائزة القدس" التي منحتها له "إسرائيل" عام 1973، بالدرجة الأولى لتأييده ككاتب عالمي لكيانها العنصري الاستعماري. لا أدري ما أقول كإنسان فلسطيني شغله شعر بورخيس وأخذ يترجمه باهتمام عن الإسبانية الأصليّة التي كتبَ بها، وبالاستعانة بالترجمات الإنكليزية أيضاً، وهو شعرٌ أعتبره غنياً ومؤثّراً حقاً، سوى أنَّ في الوقوف إلى جانب المحتل والاحتفاء به فقدان للبصيرة والضمير معاً، وذلك شيء لا يُغتفر. أقولُ هذا باعتبار أنَّ هذا الكاتب الفذّ، بلا شك، واسع الثقافة وذا تأثيرٍ وارتباطات أدبيّة على امتداد أصقاع الأرض.
يبقى القول إنَّ الشعر الحقيقي هو استعارة كونيّة تتخطّى حتى حدود الشاعر، كَبُرَ أفقهُ أم ضاق، وهذا ما نحتفي به هنا.
أنا
الجمجمة المغلَّفة، القلب المفعم بالأسرار،
دروب الدم التي لا أراها أبداً
عالم الحلم السفلي، عالم بروتوس،
الأحشاء، والرقبة، والهيكل العظمي،
أنا كلّ هذه الأشياء، والأدهشُ من ذلك،
أنّني ذاكرةُ سيفٍ، وشمسُ غروبٍ وحيدة آفلة،
تصير ذهباً، فرماداً، ثمَّ لا تعدو أن تكونَ لا شيء،
أنا الذي أرى السفن القادمة من الميناء،
وأنا الكتبُ المصنّفة، بكتاباتها المهترئة النادرة التي عفى عليها الزمن،
أنا من أحسدُ أولئكَ الذين ماتوا.
يا لَلغرابة أن أكونَ ذلكَ الرجل
الذي يزاوجُ بين هذه الكلمات، في زاويةٍ من زوايا البيت.
■ ■ ■
إلى العندليب
ذات مساء
عند ضفّة الراين مترامية الأطراف
تائهٌ بين كلِّ ليالي ليلتي الطويلة
قلتُ هل سيأتي إلى أُذنيّ الغافلتين
صوتكَ المشحون بالأساطير
عندليب فيرجيل، والفُرس؟
ربما لم أسمعكَ أبداً،
ولكن حياتي وحياتكَ بينهما رباطٌ أبدي.
كنتَ ترمزُ لروحِ رحالةٍ
في كتاب الألغاز.
الشاعر المارينو سمَّاكَ "صفيرَ الغابة"
تغنّي طوال ليل تمّوز
بين ثنايا الصفحات اللاتينيّة
ومن بين الأخشاب، لهاينه،
عندليب ألمانيا الآخر،
وَسمّتكَ الأرضُ المقدسة: الطائر الساخر،
وطائر النار، وطائر الحزن.
سَمِعَكَ "كيتس" وأنت تغني للجميع، إلى الأبد،
ليس لاسمٍ من الأسماء اللامعة.
الناس في كلِّ مكانٍ من أرجاء البسيطة
ليس بينهم واحدٌ
لا يريدُ أن يضاهي موسيقاك.
يا عندليب الظلام
حَلُمَ بك المسلمون في نشوتهم
اِخترقتَ قرارة صدورهم من شوكة الوردة المُلتاعة بالغناء،
وقد اِحمرَّت من دمكَ.
بجهدٍ كبيرٍ في الليل، أتصنّعُ هذه القصيدة،
يا عندليب الرمال وكلِّ البحار
الزاهي بالسمو، والذاكرة والخرافة
تحترقُ بالحبِّ
وتموتُ في سيولة أُغنية.
■ ■ ■
رجلٌ أعمى
لا أعرفُ أيّ وجهٍ يُبَادلني النظر
في كلِّ مرّةٍ أنظرُ إلى وجهي في المرآة
لا أعرفُ أيّ وجهٍ قديم يبحثُ عن صورته
بصمتٍ وغضبٍ مُتْعَب.
فقدتُ بصري ببطء، بيدي أتعرّفُ على قسماتِ وجهي الخفيّة،
يراودني قبسٌ من نور.
شعرتُ بلونِ شَعْرِكَ الرمادي والذهبي معاً.
أقولها مرّةً أُخرى، لم أفتقد أكثرَ من جلدِ الأشياء التافه،
هذه الكلمات هي لميلتون، وهي جريئةٌ،
لكني الآن أفكّرُ بالرسائل والورد.
أفكّرُ أنّهُ لو أرى تقاسيم وجهي
سأعرفُ من أنا حقاً في هذه الظهيرة النفيسة.
■ ■ ■
الوردة اللامتناهية
خمسمئة عامٍ في ظلّال الهجرة
أطلّتْ بلادُ فارس على الدنيا من مناراتها
أطلّت على غزو الرماح الآتية من الصحراء
بينما أطال عطّار نيسابور* التأمّلَ في وردةٍ
وخاطبها بلا كلماتٍ
كمن يفكّرُ، لا كمن يصلّي:
عالمك الهشّ الذي يخصّك في يديّ
بينما الوقتُ يعصفُ بكلينا، يأخذنا على حينِ غِرةٍ،
في هذه الظهيرةِ، في حديقةٍ تائهةٍ.
مظهركِ الأشعث رطبٌ في الهواء.
عطركِ الذي يلفحُ بثباتٍ رتيب
يصعدُ إلى وجهي القديم المتهالك.
لكني أعرفك منذُ زمنٍ طويلٍ
أكثر من ذاك الطفلِ الذي لمحكِ
في ثنايا الحلم
أو هنا، في هذه الحديقة، ذاتَ صباحٍ.
بياضُ الشمسِ قد يكونُ لكِ
وكذلك ذهبُ القمر
أو الوصمة القرمزيّة الصلبة على حافة سيفِ النصر.
أنا أعمى ولا أعرفُ شيئاً ولكني أرى
أنّهُ ما زالت هناك طرقٌ كثيرة، وكلُّ شيء
ما هو إلا لا نهائية الأشياء.
أنتِ، أنتِ موسيقى، ولهبٌ في السماء،
وقصور،
وأنهارٌ، وملائكةٌ،
أيتها الوردةُ العميقةُ والحميمةُ اللانهائية،
في نهايةِ المطاف سَيُرِيِك الله لعينيّ الميّتتين.
* عطّار نيسابور: المقصود هو فريد الدين العطار صاحب "منطق الطير"
■ ■ ■
مرثيّة
ثلاثةُ وجوهٍ قديمة تبقى معي
الأول البحر الذي يتحدثُ مع كلاوديو
الثاني الشّمال ذو المزاج الفولاذي
متوحشٌ عند شروقِ الشمسِ أو غروبها
والثالث الموت، الاسم الذي نطلقه على الوقتِ الذي مضى،
وهو لا يكفُّ عن إزعاجنا.
أعباءُ الأمس الدنيوية من التاريخ
الواقع والمتخيّل
يقهرني كما يقهرني الذّنْب.
أفكّرُ في السفينة العظيمة
التي عادت من البحر محملةً
بجثّة "سكيلد سكيفنغ"
الذي حكمَ الدنمارك تظلّه السماء،
أفكّرُ في الذئبِ العظيم
الذي كانت أرسنته ثعابينَ
ثعابين أضفت على السفينة المحترقة نقاءَ وبياضَ
الإله الجميل الميّت.
أفكّرُ أيضاً بالقراصنة، أولئكَ الذين تناثر
لحمهم البشري تحت ثقلِ البحار، مسرح مغامراتهم.
أفكّرُ بالصروح التي رآها البحارةُ
على طريقِ رحلاتهم الجنوبيّة.
أفكّرُ في ما يخصّني، موتي الكامل المتكامل،
بدونِ مرمدة جنائزيّة، أو دمعةٍ واحدة.