لم تعدِ الخيارات رحبة في بلد مثل لبنان، تتآكل فيه الفُرص شيئاً فشيئاً، لكنّ ترجمة الإشارة إلى هذا التآكُل بلغة تشكيلية لمّاحة وبعيدة عن التيئيس – الذي يشيع بسهولة هذه الأيام – هي نقلةٌ من أجل إعادة تموضع، وتذكير بأن الرحابة في هذا المكان ما زالت متاحة، فنّياً على الأقل، وكلّ ما علينا فعله هو أن نحدّد الوجهة لعلّنا نصل.
"خطوة إلى الأمام"، هو عنوان المعرض الذي وقّع لوحاته الاثنتين والعشرين التشكيلي اللبناني شارل خوري (1966)، والذي اختُتم أمس الثلاثاء في "غاليري مارك هاشم" ببيروت. ورغم أن عنونة المعرض، ككلّ، تبقى قابلة للتأويل عند جمهور من المتلقّين، خاصّة مع النظرة الأولى إلى أعمالٍ مشحونة بجرعة هندسية مبالغٍ فيها، إلّا أن انفتاح اللوحة ذات الحجم الكبير على مروحة واسعة من الألوان يُحدّد بشكلٍ أو بآخر أيَّ "أمامٍ" هو الذي نخطو صوبه.
إنْ كان من شيء يُحتفى به في لوحة خوري، فهو الشكل، إذ لا يمكن الحديث عن أشخاص أو عناصر طبيعية من حيوانات ونباتات وسوى ذلك، فهذه الشخوص والعناصر موجودة بالطبع، لكنّها مأخوذة بالشكل الذي يقود العين، وحده، إلى تتبّع المحتوى، ومن خلاله فقط تأخذ الأشياء انتماءاتها. بمعنى آخر، لا توجد في الأعمال تلك الكائنات كما هي في الواقع، بل إن تقاطعاتها وظلالها، وتنسيقها أو تجميعها، يأتي من خلال استقراء الخطوط التي تؤلّفها.
طبعة خاصة من السريالية عُدّلت فيها الكثير من الشروط
قد يتراءى للمتلقّي وجهٌ، ليس هو البورتريه المباشر ولا هو بالضرورة يُحيل إلى إنسان آخر تتضمّنه اللوحة أو أي عمل آخر: إنه شكلٌ يبحث عن شبيه "خطوطيّ" (نسبةً إلى عالم الخطوط) قد يجده في صورة نبتة أو شكل عصفور، حيث باقي الأشكال تمارس عملية بحث خاصّ بها أيضاً.
أمام هذه الترسمية التي لا تُشيّد عالمها من الواقع، وتركنُ إلى هندستها الخاصة، يُخيّل إلينا أننا أمام مقاربة تجريبية لا تخلو من البدائية التي تقبع خلف "الهندسة الواقعية" للعالم وأشيائه. وهذا ما يمكن أن نلمسه في لمحة من الغِلظة التي توفّق أبدان العناصر بعضها ببعض، وتمزجها وفقاً لمنطقها التشخيصي الخاصّ. أمّا المعادلة اللونية التي تؤكّد هذا المنحى، فهي الإسراف والتشديد على الحارّ منها، كأنّ ذلك الحرّ وتلك الحماوة هي مَن سيصيّر أو سيتولّى أمر تلك الغلظة، لا لتليينها، بل لمدّها على خامة القماش.
إذن، "الأمام" هو تفصيلٌ له خصوصيته، و"الخطوة" إليه ليست ذلك الملموس الواقعي والراهن "هنا"، بل هي وراء كلّ ما سبق. قد تكون لوحة خوري مجرّد طبعة خاصّة من السوريالية، عُدّلت فيها الكثير من الشروط تحت وطأة اللون الحارّ، والانتماء إلى صخبه وإلى كينونته الواسعة، كما أنها قد شُحنت بحزمة إشكالية من الخطوط القادرة على أن تُحيّد النمنمة و"المينيمالية" من طريقها، وهذا غير مستبعد، إلا أنّها أيضاً حافلة بمنسوب تأسيسيّ، حيث لا تكتفي بالتجاوُز أو تطوير ما استعارتْه.