بعد كتابه الأول "ستحدثني عن النار"؛ الذي صدر عام 2015 وتناول الممارسات الفظيعة للقوات شبه العسكرية في كولومبيا، لا سيّما تلك المتعلقة بإخفاء الجثث في البيت الطوبي الذي جرى تحويله إلى فرن لحرق الناس بين عامي 2011 و2013، وكانت النتيجة حرق أكثر من 500 شخص، لم يكن الكاتب الكولومبي خافيير أوسونا (بوغوتا، 1987)، يملك أيّة فكرة عن القصّة الجديدة التي سيدخل فيها، لكنّه الآن عندما يتحدّث عن الأسباب التي دفعته لتأليف كتابه الثاني "رسائل من رماد"، الصادر عن "راندوم هاوس"، يتذكّر قصة إيميليا؛ تلك الفتاة التي اقتربت منه وهو يقدّم كتابه الأول، لتقول له إنّها تعرف شاباً من هذه القوات، فقد كان حبّها الأول في فترة المراهقة، وقد تبادلت معه كثيراً من الرسائل التي لا تزال تحتفظ بها. هكذا تقرر الشابة أن تشارك الكاتب الكولومبي رسائل حبّها مع المقاتل، من أجل أن يكتب قصة تتحدث عن الأمر.
من هنا، تحديداً، بدأ الكاتب الكولومبي قصة كتابه الثاني، عندما راحت إيميليا في ما بعد تعطيه رسائل حبّها مع ذلك المقاتل، وكانت الرسائل شبه ممزقة بفعل الزمن، مكتوبةً بخط اليد، وعليها رسومات وكلمات وأغنيات رومانسية. هكذا بعد أن حصل أوسونا على جميع الرسائل، وصل إلى النتيجة التالي: "إذا كان هنالك شيء قد جلب التعاسة والبؤس وأضرَّ بكولومبيا، فهو التفكير في شخصٍ واحدٍ كعامل محدّد للشر، التفكير في الشر كمسؤولية فردية. قد تكون إحدى مآسي الحرب متعلّقة، بشكل أو بآخر، بتجريد أو نزع الطابع الإنساني عن أولئك الذين تسبّبوا بالأضرار والمآسي، خصوصاً أننا ننسى أن لدى أولئك البشر حاجات ملحّة كمثل الحبّ".
وبالفعل، إن كانت هناك طريقة كي يفهم بها المرء كيف يمكن أن يكون الحب حاجة ملحّة في أكثر ظروف الحياة تمزّقاً ووجعاً وألماً، فإن قصة إيميليا ووليم، بطلَي كتاب "رسائل من رماد" هي الجواب.
يوظّف الكاتب الحب كخيط إرشادي لحلّ الأسئلة المعلقة
يروي الكتاب قصة إيميليا ووليم، اللذين التقيا عندما كانت الفتاة مجرد مراهقة، وكان الشاب عضواً في قوات الدفاع الذاتي المتحدة الكولومبية؛ هذه الجماعة اليمينية المتطرفة، شبه العسكرية، التي نشطت في تهريب المخدرات، وكانت محارباً نشطاً في الذراع المسلح الكولومبي خلال الفترة الممتدة بين 1997 و2006، إذ كانت مسؤولة، بشكل مباشر، عن أعمالٍ انتقامية ضد القوات المسلحة الثورية في كولومبيا، وتنظيم جيش التحرير الوطني الشيوعي، بالإضافة إلى العديد من الهجمات ضد المدنيين التي بدأت في عام 1997، مع مذبحة مابريبان في كولومبيا.
سيتشكك الصحافي الكولومبي عندما يستلم الرسائل من إيميليا وستكون له أسبابه المُقنعة من أجل ذلك، لا سيّما بعد عمليات البحث والتنقيب الصحافي التي قام بها في كتابه الأول، ليثبت الجرائم البشعة التي ارتكبتها تلك المليشيات المسلّحة المرتبطة بتجّار المخدرات في أثناء أعمال العنف الأهلية التي اندلعت في البلاد.
من هنا، كان سؤال خافيير أوسونا الأخلاقي: كيف سيكتب عن الحبّ بعد المآسي والفظائع كلّها التي وثّقها في كتابه الأول؟ "سرعان ما شعرت أنَّ الأمر مؤثرٌ للغاية، لا سيّما حين فكرت بأن الرجل الذي كان يشكل جزءاً من تلك المجموعة التي أحرقت وعذّبت مئات البشر، استطاع أن يكتب رسائل حبٍّ، وأن يرسم عليها، وأن يدعو حبيبته كي تكمل الرسمات وتلوّنها. في نهاية المطاف، أردت أن أعوّل على تلك الإنسانية، أن أناشدها، وقد بدت لي كمثل حبل متوترٍ لا يتوقف عن الانهيار في أثناء الصراع. هكذا، وعلى غرار وليم، توجد إمكانية في قلوب أولئك الذين يشنون الحروب ويصنعونها ويشاركون فيها، للتحوّل والتغيير"، يكتب أوسونا.
يتناول أوسونا الحرب الأهلية في كولومبيا بطريقة مختلفة، إذ تبدو الرسائل وكأنها خلفية للصراع الذي يجنّد الشباب، كما هو حال وليم، والعلاقات التي تُبنى وسط العنف. وتُمثّل هذه الرسائل، كما يقّدمها الكاتب، رهاناً على الحياة، لا سيّما وأن إيميليا نفسها قد سمحت بإخراجها، وهذا دليل على أن الحبَّ قادرٌ على تغيير، ليس الأشخاص فحسب، ولكن سرديات الحرب أيضاً.
هنا تشير الكاتبة والصحافية البارزة ماريا رونديروس، التي كتبت مقدّمة الكتاب، مشيرةً إلى أهمية السردية الجديدة التي يبتكرها الكاتب الكولومبي: "أمام أُناس مشبعين بأرقام الموتى والمخطوفين، أمام قسوة القصص المنقولة والتقارير الكثيرة، والتحقيقات التي تبقى في سرد ما حدث، تأتي سردية خافيير أوسونا لتلامس زوايا جديدة: زوايا تلامس قلب المجتمع الكولومبي"، تقول الصحافية الكولومبية في مقدّمتها للكتاب.
القصة التي ينسجها أوسونا تسمح لنا أيضاً برؤية الخلفية المُوحلة لقصة دولة بلا سلطة، وسياسيين بلا شرعية، ومالكين دون حق. كل ذلك من خلال رسائل وليم إلى إيميليا، حيث سنتعرف فيها على الشاب الذي كان مراهقاً، وأصبح عضواً في هذه المليشيا، وكيف أشركوه ووضعوا ولاءه وحياته على المحك. كذلك سنتعرّف من قبل بطل الرواية كيف ستقتلُ الشرطة - التي تمثّل الدولة - الأبرياء، وكيف أنّها ستغيب بشكل واضح عندما تبدأ أحداث العنف.
يتعمّق في أرواح القتلة المراهقين الذين تمَّ تجنيدهم
سيلاحظ القارئ كيف استطاع الكاتب توظيف الحبّ كخيط إرشادي يسمح بحلّ الأسئلة التي تُركت معلّقة في كتابه السابق، كما أنه سيطوّر كثيراً من التأملات الفكرية من أجل فهم الحرب والإنسانية في صراع استمر لعقود عديدة. وسيسمع القارئ في الكتاب، عبر المراسلات، صوت كل من وليم وإيميليا، لكن سيبرز بشكل واضح صوت إيميليا، الذي سيستفيد منه الكاتب، للمقارنة بين إيميليا المراهقة، الشابة التي كتبت رسائل الحب الأولى طالبة من حبيبها أن يمزقها، وبين إيميليا التي كبرت وهي الآن تقرأ الكتاب وتتحدّث في خاتمته مع العديد من النساء في كولومبيا اللواتي مررن بمواقف مماثلة.
لا يركز خافيير أوسونا في "رسائل من رماد" على الجرائم المروّعة، بل يركّز على الحياة التي اهتزت بينما اشتعلت النيران في الأفران، وهي الحياة التي تسعى اليوم النساء القويات في تلك الأراضي الساخنة إلى إعادة بنائها. قد يكون رماد تلك الأيام القاتمة قد اندثر بالفعل، لكن لا يزال صدى الخوف والجريمة يترددان. لذلك تتعمق صفحات الكتاب في أرواح القتلة المراهقين الذين يتم تجنيدهم ويُقتلون، وتكشف كيف يفكرون، ولكنها تتعمق أيضاً في أرواح أولئك الآخرين الموجودين بينهن، والذين تمكّنوا من الحب، والتماس الغفران، واحترام النساء.
لا شك أن "رسائل من رماد"، في نهاية المطاف، هو محاولة للدخول في تلك الشقوق العويصة التي عادةً ما يتجنبها الكتّاب، لكن أوسونا أراد تحديداً أن يواجه ما لا يمكن تعريفه، وما درجت العادة أن يتم تجنّبه. ومن هنا يتم بناء سرد قوي ذي قدرة تحويلية. هكذا يؤكد الكاتب ضرورة وجود الحب في مكانه الصحيح، في مجتمع يحتاج بشدة إلى معاملة الآخرين بمودة وتسامح.