حلمي التوني.. متعة البصر والبصيرة

13 سبتمبر 2024
من أعمال حلمي التوني
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- حلمي التوني، الفنان الراحل، أبدع في تصميم أغلفة الكتب، حيث كانت أغلفته تجري حواراً رمزياً مع القارئ، مما يعزز التأمل والفهم قبل القراءة.
- أغلفته لكتب نوال السعداوي ومحمود أمين العالم استخدمت الألوان والرموز بشكل مبدع لتعكس مضمون الكتب وتزيد من جاذبيتها.
- في مؤلفات جبرا إبراهيم جبرا، استخدم التوني رسوم توضيحية خالية من اللون واسم الكاتب بخط كبير، مما أضاف غموضاً وجعل الأغلفة تشبه مقدمات بصرية.

لا يعرف عالَم نشر الكتب العربي غير القليل من الفنّانين المختصّين بأغلفة الكتب، غير أنّ حلمي التوني، الذي غادر عالمنا مؤخّراً، لم يكن اختصاصياً في ذلك، بل فنّاناً، خلق طابعاً جديداً، ومُبتكَراً، لا في تصميم الأغلفة وحده، بل في علاقة التواصل بين القارئ والكتاب. وأكاد أجزم أنه ليس بوسع أيّ قارئ أن يعبُر إلى الصفحة الأُولى من أيّ واحد من تلك الكُتب دون أن يتأمّل الغلاف، ويُحاول أن يعرف قليلاً عن مضمونه، وهو يقبل على  قراءته، من خلال الطاقة التي تُرسلها تصاميم الفنّان وألوانه الساطعة. فغلاف الكتاب الذي يُصمِّمه يُجري حواراً مع العمل من جهة، ويُخاطب القارئ المُفترض من جهة ثانية، واللّافت فيه أنه لا يكشف المضمون كاملاً، وإنما يضعه في رسالة رمزية.

من الصعب الحديث عن حلمي التوني، دون الإشارة إلى الرفقة التي صاحبنا بها، وأقصد كثيراً من القرّاء في جيلي، ولديّ في المكتبة مثلاً الطبعة الثانية من كتاب نوال السعداوي "المرأة والجنس" (1972). وغلافه للتوني، وهو يكتب هذا العنوان بحيث يغطّي ثلاثة أرباع الصفحة، مُمتلئاً بلون برتقالي مُبهِج مليء بالرموز التي يحملُها اللون نفسه، بينما وضع في الثُّلث الباقي تخطيطاً لامرأة مُحاطة بوَردة. في الجزء الثاني من كتاب السعداوي الذي أخذ عنواناً آخر هو: "الأنثى هي الأصل" يملأ وجه المرأة ثُلثي الصفحة، مُحاطاً بالثمار التي يرمز أغلُبها إلى الخصوبة: العنب مثلاً. وبقدر ما كان كتاب السعداوي جريئاً ولافتاً في زمن صدوره، فقد ساهم غلافُ الكتاب، بحسب ما أُفكّر به اليوم، في زيادة لَفْت الانتباه إلى تلك الأهمية التي أدركها الفنّان، وساهم في تقديمها، إلى  الجمهور العربي القارئ.

وفي الطبعة الأُولى من كتاب محمود أمين العالم "البحث عن أوروبا" (1975)، يتناوب كلٌّ من الشرق والغرب اقتسام صفحة الغلاف، يقترب الشرق من ملامح مصر بشكل أكثر خصوصية، حيث القباب والمآذن وأشجار النخيل، وهي البلد الذي يأتي منه الناقد، بينما تظهر العمارة التراثية الأوروبية شاملة لا تخصّ بلداً واحداً من بلدانها، كما هو حال أوروبا بالفعل، وكما هو مضمون الكتاب الذي يحتوى الرحلة الفكرية العميقة التي مرّ بها العالم خلال رحلته إلى تلك البلدان.

لا تكشف أغلفته المضمون كاملاً، بل تضعه في رسالة رمزية

لكنّ الفنّان يأخذ مساراً مختلفاً قليلاً في تصميم مؤلّفات جبرا إبراهيم جبرا، حيث يتصدّر اسم الكاتب الجزء العلوي من الغلاف بخطّ كبير خاصّ من تصميم الفنّان، وتُوضَع في الثلث المتبقّي رسوم توضيحية، خالية من اللون، تُقارب موضوع العنوان في كلّ كتاب من الكتب النقدية لجبرا، أو من الكتب التي ترجمها. لكنّها هُنا لا تتدخّل في شؤون القارئ، كما هو الحال في الكتب السابقة، وتُبقي المسافة بين الغلاف والكتاب مُغلّفة بالغموض. أعتقد أنّ أحد الأسباب، هو أنّ معظم مؤلّفات جبرا التي نُشرت في تلك الطبعات، لم تكن ذات موضوع واحد، فهي تجميع لمقالات ودراسات وحوارات، كتبها، وأجراها في حياته، مثل "ينابيع الرؤيا" و"الحرّية والطوفان" (1979) وغيرها. 

لا يستطيع المرء التوقّف عن تأمّل تلك الأغلفة، وقراءتها، خاصة أنها كانت، وسوف تظلّ تشبه المقدمات التي تُمتّع البصر والبصيرة معاً.


* روائي من سورية

المساهمون