مع اقتراب الذكرى المئوية لصدور أوّل مجموعة قصصية "الشيخ جمعة" لرائد القصة المصرية محمود تيمور (1894 - 1973) في القاهرة (1925) والاستعداد للذكرى المئوية لحسن كلشي (1922 - 1976)، الذي يُعتَبَر من أعلام الاستشراق في يوغسلافيا السابقة ومؤسّس الدراسات الشرقية الحديثة في العالَم الألباني، أصدرت "دار لوغوس" في سكوبيه طبعة جديدة من مختارات محمود تيمور القصصية بعنوان "الحاج شلبي وقصص أُخرى" بترجمة حسن كلشي، والتي صدرت في طبعتها الأولى في بريشتينا عام 1968.
تأتي هذه الطبعة الجديدة، مع المقدّمة الأولى التي لا تزال لها قيمتُها، لتلقي الضوء على الاستعدادات للاحتفال بمئوية حسن كلشي، وبالتحديد على هذا الجانب الذي كان فيه رائداً أيضاً؛ وهو ترجمة الأدب العربي والتعريف به في أكثر من لغة في يوغسلافيا السابقة (الصربوكرواتية والألبانية والمقدونية).
وفي الواقع، فإنَّ هذا المجال يمثّل جانباً من ريادية كلشي في عدّة مجالات بحكم تعدُّد اللغات التي كان يعرفها، والدراسات التي تخصّص فيها، والمؤسسات التي عمل فيها وترك فيها بصماته حتى الآن.
وُلد حسن كلشي في الثالث من آذار/ مارس 1922 في قرية سربيتسا بمقدونيا الغربية ذات الأغلبية الألبانية، أي في مجال متعدّد اللغات والثقافات، لأب شيخ درّس في مدرسة الفاتح بإسطنبول وحرص مبكراً على تعليم ابنه اللغة العربية والثقافة الإسلامية. وقد تعمّق الشاب حسن في دراسة العربية والعلوم الدينية في المدرسة الثانوية "الملك ألكسندر" في سكوبيه، التي كانت الوحيدة من نوعها في جنوب يوغسلافيا.
وبعد تخرّجه منها، التحَقَ بقسم الاستشراق في جامعة بلغراد وتخرّج منه في 1951، حيث عمل فيه أستاذاً مساعداً لمؤسّس القسم فهيم بايراكتاروفيتش (1889 - 1970) وناقش فيه رسالته للدكتوراه التي حملت قيمة ريادية "أقدم الوثائق الوقفية باللغة العربية في يوغسلافيا". وبعد ذلك، ذهب إلى ألمانيا ليتخصّص أيضاً في الدراسات التركية في جامعة هامبورغ، وعاد في 1967 ليلتحق بمعهد الدراسات الألبانية في بريشتينا، ثم أصبح أستاذاً للتاريخ العثماني في قسم التاريخ بجامعة بريشتينا في 1970، إلى أن أسّس ورأس قسم الاستشراق الذي انطلق عام 1973، وبقي رئيساً له إلى رحيله في التاسع عشر من تمّوز/ يوليو 1976.
ترجم كلشي للكتّاب العرب وعرّف بهم في ثلاث لغات
مع هذه الخلفية الثقافية والعلمية، كان كلشي يُجيد عشر لغات (الألبانية والتركية والصربوكرواتية والعربية والعثمانية واللاتينية والإيطالية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية)، يبحث وينشر بها أبحاثه في المجلّات اليوغسلافية والأوروبية والتركية في المجالات التي اكتسب فيها ريادة علمية. وإلى جانب ذلك، ساهمت عدّة عوامل في اهتمامه بالأدب العربي وترجمة بعض إبداعاته إلى عدّة لغات في يوغسلافيا.
من بين تلك العوامل أنّ كلشي عاش سنوات الخمسينيات في بلغراد بحكم عمله في قسم الاستشراق، وهي السنوات التي شهدت بروز "حركة عدم الانحياز" ونموّاً سريعاً في العلاقات بين يوغسلافيا التيتوية ومصر الناصرية بشكل خاص والعالم العربي الإسلامي بشكل عام. وفي هذا السياق ازداد الاهتمام في يوغسلافيا السابقة بتعلّم اللغة العربية والتعرّف على الأدب العربي، وهو ما فتح المجال لموجة كبيرة من الترجمات للشعراء والكتّاب العرب، سواء من لغات وسيطة أو من اللغة العربية مباشرةً. ومِن ناحية أُخرى، فقد أدّى انتخاب كلشي عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة إلى توثيق علاقاته مع العلماء والأدباء في مصر، ومنهم محمود تيمور (1894 - 1973) الذي ربطت بينهما صداقة أيضاً.
وبحكم العلاقة الخاصة بين يوغسلافيا التيتوية ومصر الناصرية، التي أتاحت مثلاً أن يزور نجيب محفوظ يوغسلافيا وأن يزور ايفو أندريتش مصر، لم يكن من المستغرب ضمن "الاستعجال" للتعرّف إلى الآخر أن تصدر بعض الترجمات عبر لغات وسيطة، إلى أن بدأ الجيل الجديد من المستشرقين في يوغسلافيا (حسن كلشي، وسليمان غروزدونيتش، وراده بوجوفيتش وغيرهم) في ترجمة الإبداعات العربية من شعر وقصة ورواية مباشرة من اللغة العربية إلى لغات يوغسلافيا.
وهكذا نجد أنّ الموجة الأولى التي أعقبت زيارة جمال عبد الناصر إلى يوغسلافيا في 1956 أثمرت عدّة ترجمات مستعجلة للأدب المصري من لغات وسيطة؛ من بينها مجموعة قصصية لمحمود تيمور بعنوان "وردة من الخمّارة" صدرت في سراييفو عام 1957 بترجمة من الفرنسية أنجزتها ندى ارتسغ. ومع ذلك تميّزت هذه الطبعة بخاتمة للمستشرق الشاب نياز دزدارفيتش (1920 - 1989)، الذي كان تخرّج لتوّه من قسم الاستشراق في بلغراد، وسيُصبح لاحقاً سفيراً ليوغسلافيا في إيران والجزائر، عرّف فيها بمحمود تيمور بكونه "واحداً من روّاد القصة العربية"، وينتهي إلى التعبير عن أمله في "أن يتم نشر الأعمال الأُخرى لكبار كتّاب الأدب العربي الحديث؛ مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما من الأجيال اللاحقة الذين برزوا بعد الحرب العالمية الثانية". وقد حقّق دزدارفيتش بنفسه هذا "الأمل" حين ترجم "الأيام" لطه حسين ونشرها في سراييفو عام 1979.
أول عمل من الأدب العربي الحديث يترجَم إلى الألبانية
كان لا بدّ من انتظار سنوات أُخرى حتى تبدأ الموجة الجديدة في ستّينيات القرن العشرين التي شملت اختيارات وترجمات أصيلة من الأدب العربي قام بها الجيل الجديد من المستشرقين المذكورين. ومن هؤلاء حسن كلشي الذي كان أوّل من عرّف بمحمود تيمور وترجم له من العربية مباشرة، وذلك بعدّة لغات.
ففي 1962 نشر دراسة بالصربوكرواتية في مجلّة "سوسريتي" الثقافية بعنوان "القصة العربية المعاصرة ومحمود تيمور"، وكانت أوّل محاولة أصيلة للتعريف بالأدب العربي المعاصر؛ فقد كان حسن كلشي يرى أن محمود تيمور هو "الأب الروحي" لنجيب محفوظ وغيره، ولذلك لا بدّ من التعرّف على تيمور ونتاجه، حتى يفتح ذلك الطريق للتعرف على الكتّاب العرب الآخرين في مصر وغيرها.
وقد تابع كلشي اهتمامه بتيمور والتعريف به في اللغات الأُخرى في يوغسلافيا (التي كان يجيدها)؛ فأصدر عام 1964 مجموعته القصصية "مكتوب على الجبين"، التي نُشرت في القاهرة 1941، باللغة المقدونية في سكوبيه عن دار "كوتشو راسين". وبعد انتقاله للعمل في "معهد الدراسات الألبانية" ببريشتينا عام 1967، قام بترجمة مجموعة "الحاج شلبي" إلى الألبانية، وصدرت عام 1968 عن دار "ريلينديا"، وهي بذلك كانت أول عمل من الأدب العربي الحديث يترجم إلى اللغة الألبانية.
وفي الحقيقة تنبع أهمية هذه المختارات القصصية من المقدّمة الطويلة التي تصدّرتها، والتي تناول فيها كلشي حالة الانحطاط في الأدب العربي بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية في يد المغول وصولاً إلى النهضة التعليمية الجديدة في عهد محمد علي في مصر التي انعكست على اللغة والصحافة والأدب، والتي كان من ثمارها "الأسرة التيمورية" (أحمد تيمور باشا وأخته عائشة التيمورية وولداه محمد ومحمود تيمور) وولادة الرواية والقصة المصرية الحديثة التي كان لها تأثيرها في البلاد العربية المجاورة. وفي هذا السياق يذكر كلشي الاهتمام الكبير بنتاج محمود تيمور في النصف الثاني للقرن العشرين، حيث تُرجمت العديد من مجموعاته القصصية ورواياته إلى الفرنسية والروسية والإنكليزية وغيرها.
وفي ما يتعلّق بهذه المختارات القصصية، التي يوحي عنوانُها بأنها ترجمة لمجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه أصدرها تيمور في القاهرة، يوضّح كلشي أنه اختارها من أربعة مجموعات قصصية لمحمود تيمور هي على التتابع: "قلب غانية" (1937) و"مكتوب على الجبين" (1941)، و"كل عام وأنتم بخير"(1950)، و"أبو الشوارب" (1953).
وبعد أن توّجت جهود حسن كلشي بتأسيس قسم الاستشراق في جامعة بريشتينا عام 1973 وأصبح رئيساً للقسم، أصبحت من مهامه أيضاً تدريس الأدب العربي أيضاً للجيل الأوّل من طلّاب القسم. ولذلك فقد بدأ يترجم لبعض الشعراء العرب من امرئ القيس حتى نزار قباني، وهو ما بدأ بنشر بعضه في الصفحات الثقافية للجرائد وفي المجلّات من قصائد لأبي نواس وابن الرومي والمتنبّي وغيرهم، وقدّم هذه المختارات التي تضمنت مقدّمة مطوّلة للنشر إلى رئاسة الجامعة لكي تُنشر ككتاب جامعي. وللأسف فقد أخّر رحيلُه المفاجئ وهو في قمة عطائه العلمي نشرها، ثم فُقدت في ظروف مريبة.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري