استمع إلى الملخص
- تجاهل إسرائيل للقانون الدولي في حربها على غزة يُظهر استخدام القانون الدولي بانتقائية لحماية مصالحها، مع تجاهل الأضرار الجانبية للمدنيين.
- الخطاب الإسرائيلي يستخدم مغالطات منطقية لتبرير أفعاله، لكن الوعي الطلابي العالمي والانتفاضات ضد هذه السرديات تُظهر تحولاً في الرأي العام العالمي.
لا تزال حرب الإبادة مستعرة في غزّة، ولا أمل أن تنتهي سريعاً. ولن يُقاس حساب الربح والخسارة بمألوف المقاييس العسكرية بحكم عدم التكافؤ الصارخ بين طرفَي النزاع. وأمّا المثقّف، فمن مهامه العاجلة أن يُسجّل الحصيلة المنطقية لهذا الصراع، وأن يُجري تقييماً للبنية البرهانيّة التي قام عليها خطابُ كلّ طرف.
فمن جهة، تنبني الرواية الإسرائيلية على شعاراتٍ مفادها أنّ "طوفان الأقصى" بمثابة تهديد وجوديّ للكيان، متّكئةً على مبدأ ضرورة الدفاع عن النفس لتبرير آلاف المجازر، دون أن يرفّ لها جفنٌ عن طبيعة الضحايا الذين ارتُكبت في حقّهم. فالمنطق يقتضي أن يتّجه الدفاع عن النفس إلى من يُمثّل تهديداً مباشراً، غير أنّ يد الآلة الحربية الإسرائيلية امتدّت إلى كلّ من طاولته من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء، وحتى الأشجار والمدارس والمساجد والمستشفيات. ولذلك، فما يرتكبه كيان الاحتلال هو انتقام قوّة غاشمة، ليس فيه أيّ شكل من أشكال "الدفاع". وهذا أوّل تهافت منطقي.
ثمّ إذا فحصنا هذه الحرب من زاوية المنظور القانوني، فإنّ تبعات عملية السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر ينبغي أن تقع حصراً على القائمين بها لمحاكمتهم إن توفّرت الأدلّة القاطعة. وقد تُعتبر في أسوأ الحالات "جريمة حرب"، لا أن يسود قانون الغاب فتهبّ آلة الحرب الإسرائيلية بأكملها لتعمل على إبادة مجتمع محاصَر. ولم تلتفت هذه الآلة إلى القانون الدولي حين بدأت قصفها العشوائي على قطاع غزّة، في حين أن نفس هذا القانون يوظَّف حسب حاجة الدولة العبرية لحمايتها وفتح المجال لمزيد من التدمير، بدعم من الفيتو الأميركي في مجلس الأمن وتبريرٍ من قادة الدول المناصرة للاحتلال. وما ذلك بغريب عنها؛ فمعظمها قوى استعمارية سابقة كانت تبيد قبائل بأكملها بجرائر وهمية.
استنادٌ إلى المحرقة لاقتراف جرائم في حقّ شعب أعزل
كما برّرت "إسرائيل" فظاعة هجومها بما تعرّض له مستوطنون في "غلاف غزّة" على أيدي مقاتلي كتائب القسّام من قتل أو أسر، وفي هذا تضليلٌ كبير: فلو سلّمنا بارتكاب أفرادٍ ما "جرائم" في حق المحتجَزين، فقد يكون ذلك عملاً معزولاً، يُعاقَب فاعلُه فقط، ولا يُحطَّم قطاعٌ بأكمله من المدنيّين الذين لم يشاركوا في العملية ولا في ما يكون قد حصل خلالها من "انتهاكات". وعندما يسأل الإسرائيليون عن الضحايا المدنيّين يجيبون باستحالة تجنُّب "الأضرار الجانبية"، ترجمةً لمصطلح تقني غامض "Dommage collatéral" ظهر إبّان حرب فيتنام وكأنّه برهان قائم بذاته، يُشرّع لأي جريمة، في حين تثبت التحاليل العسكرية أنّ ما ارتكبه جيش الاحتلال من مذابح طاول "الخسائر الجانبية" وحدها، ولم يُحقّق أيّاً من أهدافه العسكرية المعلَنة من استرجاع للمحتجزين وتفكيك لقوّة المقاومة الفلسطينية.
ولا يتوقّف تهافت المنطق الصهيوني عند تبرير الحرب على غزّة، بل يمتدّ إلى محاربة كلّ من يُدين تلك الحرب في أيّ مكان من العالم. وهنا يستفيد الكيان الإسرائيلي من مقولة "معاداة السامية" في معظم البلدان الغربية، وهي في حدّ ذاتها مغالطة صارخة، تخلط بين الدين اليهودي وكيان الاحتلال، فـ"إسرائيل" لم تُحارَب البتّة لأنّ شعبها يدين باليهودية، بل لأنها كيان محتلّ.
ومن التلاعبات المنطقية الأُخرى استحضار مأساة "المحرقة"، وهي فظيعة وتستدعي أن يحاسَب مرتكبوها. وقد شفى الإسرائيليون غليلَهم من قادة النازية، لكنّهم استندوا إلى المحرقة ليقترفوا مآسي بأرضٍ أُخرى وفي حقّ شعب أعزل، لم تكن له في هذه الجريمة ناقة ولا جمل.
وكما نرى، فإنّ المنطق، علماً وحسّاً سليماً، لا يقف في صفّ أيٍ من تبريرات "إسرائيل"، فلماذا تسري هذه الأطروحات بين عقول كثيرة، وتكسب في صفّها أصحاب القرار، حتّى إنّ بعضهم بات صهيونياً أكثر من الصهاينة أنفسهم؟
فإن كان للمنطق دور في اللحظة الراهنة، فهو أن يجعلنا نوقن أنّ حكومة الحرب الإسرائيلية لن تترك محظوراً إلا وترتكبه، ولا قاعدة قانونية أو أخلاقية إلّا وتدوسها في تَحَدٍّ صارخٍ لكلّ المواضعات الإنسانية. وعلى العالم أن يتحمّل العبء النفسي والأخلاقي لهذه المقتلة المضاعفة عسكرياً وذهنياً، والتي نعيش فصولها يوماً بيوم.
لم يفعل الطلّاب المتظاهرون سوى الاستماع إلى صوت المنطق
وعلى كلّ، لم تُراهن "إسرائيل" أبداً على القوّة المنطقية لسردياتها، وإنما على ترسيخها بعدّة ألاعيب، بحيث تبدو أمراً واقعاً، وتلك إحدى الآليات التي شرحها رولان بارت في كتابه "ميثولوجيات"، حين تتحوّل علامة تجارية أو ممارسة ثقافية ما من مجرّد منتج بشري إلى ما يشبه معطيات الطبيعة فرضاً لرؤية جزء على المجموع. فقد عملت "إسرائيل" منذ عقود على تسويق سردية ظاهرها متماسك: سدّاها مبادئ دارجة في الغرب كالقول إنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق، أو أنّها حارسة الرفاه الذي تعيشه مجتمعات الغرب التي تهدّدها نهضة الأمّة العربية الإسلامية.
كما يعمل هذ الخطاب على التلاعب بأحجام الأحداث والسكوت عن وقائع والإقرار بأنصاف الحقائق، مع تضخيم للعناصر الملائمة له وإخفاء تلك التي تُناقضه. وبهذا الاعتناء الدقيق بخطابها، غزت "إسرائيل" عقول الغربيّين، وهُم غير توّاقين للتحرّي في الحقائق، لا سيما إذا تعلّق الأمر بقضية مثل فلسطين بعيدة جغرافياً عنهم.
كما عمل كيان الاحتلال على إعطاء خطابه طابع البداهة التي تفرض نفسها على العقول والقلوب، مستفيداً لعقود من غياب خطاب مضادّ يُنتجه الضحايا. لكن الانتفاضات الطلّابية التي شهدتها جامعات كثيرة في العالم أثبتت، إلى حدّ كبير، أنّ المغالطات المنطقية التي قامت عليها الأطروحات الإسرائيلية قد تهاوت ولم تعد تجد آذاناً صاغية، وأن العالم الجديد الذي يُمثّله الطلّاب قد وقف على زيف المقدّمات التي تدفع بها الصهيونية العالمية، وبالتالي، فإن النتائج التي تصل إليها من تبرير للاعتداء على الفلسطينيّين باتت في حُكم الساقط. ولم يفعل الطلبة المتظاهرون سوى الاستماع إلى صوت المنطق ورؤية الحقيقة في عرائها، كما كانت عليه منذ سبعين سنة. وكذا ينبغي أن يفعل الكثير من مثقّفي الغرب ممّن انحازوا دون رويّة للسردية الإسرائيلية.
لكن إلى أيّ حد يمكن التعويل على هذا الوعي الطلّابي العالمي في تفكيك السرديات الإسرائيلية؟ لقد نهضت كتابات عبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد وروجيه غارودي، ونقتصر هنا على الأسماء التي انتشرت أفكارها عربياً، بهذه المهمّة، ولكنّها لم تمنع الصهيونية من التمادي في أغاليطها. ينبغي اليوم توجيه الجهود نحو آليات الترسيخ التي تُسند المغالطات المنطقية فتجعل منها بداهاتٍ مقبولة لدى البعض. فما تطرحه الصهيونية على شعوب العالم لا يعدو أن يكون "أفاعي" اختلقها سحرة السياسة والإعلام فخلبوا أعين الناس واسترهبوهم. وفي هذا السياق، تصدق مقولة مريد البرغوثي: "نحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق، لقد خسرناها بالإكراه وبالقوّة".
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس