حديث في العشق الإلهي

30 ابريل 2021
(من مخطوط "مختصر المجسطي" لابن سينا (Getty))
+ الخط -

كان ابن سينا يعتبر أنّ دراسة الطب تحتاج معرفةً بأحوال الإنسان جميعها، ولعلّ أكثرها مدعاة للتأمّل الحبُّ، فخصّص له رسالة يدرس فيها مختلف وجوهه. هنا مقطعٌ من فصل "في ذكر عشق النفوس الإلهية"، من كتابه "رسالة في ماهية العشق".


لمَّا كان في كل واحد من الموجودات عشق غريزي لكماله؛ وذلك لأن كماله معنىً به تحصّل له خيريته، أوجب أن يكون ذلك الشيء معشوقاً لمستفيد الخيرية، ثم لا يوجد شيء أولى بذلك من العلّة الأولى في جميع الأشياء، فهو إذن معشوق لجميع الأشياء.

وكون أكثر الأشياء غير عارف به لا ينفي وجود عشقه الغريزي فيها. كما لا يوجب ذلك بقاء العشق الغريزي في هذه الأشياء لكمالاتها، والخير الأول بذاته ظاهر متجلٍّ لجميع الموجودات، ولو كان ذاته محتجباً عن جميع الموجودات بذاته غير متجلٍّ لها لما عُرِفَ، ولا نِيلَ منه، ولو كان ذلك في ذاته بتأثير الغير؛ لوجب أن يكون في ذاته المتعالية عن قبول تأثير الغير وذلك خلف، بل ذاته بذاته متجلٍّ، ولأجل قصور بعض الذوات عن قبول تجلّيها يحتجب، فبالحقيقة لا حجاب إلا في المحجوبين، والحجاب هو القصور والضعف والنقص.

وليس تجلّيه إلا حقيقة ذاته، إذ لا متجلّي بذاته في ذاته إلا هو، وإنه كما أوضحه الإلهيون فذاته كريمٌ متجلٍّ؛ ولذلك ربما سمّاه الفلاسفة صورة للعقل، فأول قابل لتجلّيه هو الملك الإلهي الموسوم بالعقل الكلّي فإنه بجوهره ينال تجلّيه كجوهر الصورة الواقعة في المرآة لمُتَجلَّى الشخص الذي هي مثاله، وقريب من هذا المعنى ما قيل إنّ العقل فعال مثاله، فاحترز أن تقول مثله، وذلك هو الواجب الحق، فإن كل منفعل عن سبب غريب فإنما ينفعل بتوسّط مثال واقع من العلل فيه وبالعكس، وكل منفعل إنما ينفعل في قابل الانفعال عنه بتوسّط مثال يقع منه فيه، وذلك بيِّن بالاستقراء، فإن الحرارة النارية إنما تفعل في جرم من الأجرام بأن تضع فيه مثاله وهو السخونة، وكذلك سائر القوى من الكيفيات، والنفس الناطقة إنما تفعل في نفس ناطقة مثلها بأن تضع فيها مثالها، وهو الصورة المعقولة، والسيف إنما يقطع بأن يضع في المنفعل عنه مثاله وهو شكله، والمِسَنُّ إنما يحدّد السكين بأن يضع في جوانب حده مثال ما ماسَّه وهو استواء الأجزاء وملاستها.

ولقائل أن يقول: إن الشمس تسخِّن وتسوِّد من غير أن تكون السخونة والسواد مثالها، لكنَّا نجيب عن ذلك بأن نقول: إنَّا لم نقل إنّ كل أثر حصل في متأثّر من مؤثِّر، أن ذلك الأثر موجود في المؤثِّر، فإنه مثالٌ من المؤثّر في المتأثِّر، لكنا نقول: إن تأثير المؤثّر القريب إلى المتأثّر في المتأثّر يكون بتوسّط مثال ما يقع منه فيه، وكذلك الحال في الشمس، فإنها تفعل في منفعلها القريب بوضع مثالها فيه وهو الضوء، ويحدث من حصول الضوء فيها السخونة، فيسخِّن المنفعل عنها منفعلاً آخر عنه، بأن يضع فيه مثاله أيضاً.

آداب وفنون
التحديثات الحية
دلالات
المساهمون