"جوع في الفردوس": محمد شكري في سياق عربي

31 اغسطس 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **محمد شكري: صوت المهمشين في الأدب العربي**
محمد شكري (1935-2003) تميز بقدرته على تجاوز السرد التقليدي، معبراً عن المهمشين والفقراء في المجتمع المغربي، مما جعله صوتاً بارزاً في الأدب العربي.

- **الاعتراف الدولي بأعمال شكري**
جامعة ييل عقدت مؤتمرًا حول أعماله في أكتوبر 2022، تُوّج بكتاب "قراءة في الأعمال الروائية والقصصية لمحمد شكري"، الذي يضم مقالات تضيء على رحلته الأدبية والفكرية.

- **الواقعية الوحشية في سرد شكري**
روجر آلن وصف تجربة شكري الكتابية بـ"الواقعية الوحشية"، مشيراً إلى خصوصيتها، مع جهود لترجمة أعماله إلى الإنجليزية لتعزيز مكانته في الأدب العالمي.

كتبَ الروائي والقاصّ المغربي محمد شكري (1935 - 2003)، روايات وقصصاً قصيرة مختلفة وأصيلة عكست قدرته على تجاوُز لغة السرد السائدة وتحريرها من مرجعيّاتها الأيديولوجية والفكرية والأكاديمية والبلاغية التقليدية. تحوّلت لغة السرد لديه إلى صوت للواقع، همس فيه كلماته الممنوعة والمقموعة والمهمّشة، ليعبّر من خلاله المهمّشون واللامرئيون والفقراء الذين تقطّعت بهم السبل عمّا عُدّ من المحرّمات في اللغة العربية، فاضحاً بذلك ظروفاً قاسية.

شكّل واقع القاع الاجتماعي المغربي لشكري مصدراً تدفّقت صوره كالينبوع وسقت سرده وأنعشته ومنحته أغصاناً تفرّعت في الجهات كلّها شدّت القرّاء في مختلف البلدان العربية إلى قراءة أعماله. أهمّية نتاجه في سياقه العربي هي التي دفعت "جامعة ييل" الأميركية إلى عقد مؤتمر حول نتاجه الروائي والقصصي في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022، تُوّج لاحقاً بكتاب بعنوان "قراءة في الأعمال الروائية والقصصية لمحمد شكري: جوع في الفردوس"، حرّره الأكاديميان والمترجمان يونس البستي وروجر آلن، وساهما فيه مع عدد آخر من الأكاديميّين والباحثين، وصدر بالإنكليزية عن "دار روتليدج" عام 2024. يعمل البستي أستاذاً في "جامعة ييل" وهو مترجم وشاعر. أمّا روجر آلن فهو ناقد ومترجم عمل لمدة 43 سنة أستاذاً للغة العربية والأدب المقارن في "جامعة بنسلفانيا".

تضيء مقالات الكتاب رحلة شكري الأدبية والفكرية في غِناها وتعقيدها وتدرس تطرّقه للموضوعات التي عُدّت "غير أخلاقية" في المجتمع المحافظ في المغرب. في مقالته "مجموعتا محمد شكري القصصيتان: مجنون الورد والخيمة"، يتحدّث يونس البستي عن بدايات شكري، وكيف نُشرت له قصّة قصيرة بعنوان "العنف على الشاطئ" في مجلّة "الآداب" اللبنانية عام 1966، بعد أن أُعجب بها الروائي اللبناني ورئيس تحرير المجلّة سهيل إدريس، وكانت هذه بداية انطلاقة شكري ككاتب جريء ومتمرّد، خاصّة أنّ القصّة تصف ممارسة للجنس تمّت علناً وفي وضح النهار، ولم يكن هذا مألوفاً في القصص العربية آنذاك. إلّا أنّ ما منح شكري شهرته اللاحقة هو ترجمة روايته "الخبز الحافي" إلى الفرنسية، ويُقال إنّه لولا هذه الترجمة لظلّ شكري معروفاً على نطاق محدود مثل محمد زفزاف. 

جوانب مختلفة من تجربة شكري وترجمته إلى اللغة الإنكليزية
 

ركز البستي في مقالته على مجموعتَي محمد شكري القصصيّتين "مجنون الورد" (1978)، و"الخيمة" (1985)، اللتين تجلّى فيهما إبداع شكري في فنّ القصّة القصيرة ووصفه البارع وتصويره الدقيق للبيئة ومهارته الفنّية. ويرى البستي أنّ نشر شكري سيرته الذاتية "الخبز الحافي"، جذب الانتباه إليه على حساب قصصه القصيرة التي ظلّت مُغفلة على نطاق واسع.  

اقتحم شكري المشهد الأدبي، منتهكاً الحدود الاجتماعية والدينية والثقافية، وتجرّأ على قول ما لم يُقل، وانتقد ما عدّه الآخرون موضوعات محرّمة كما يقول البستي. وتدعو قصصه القرّاء إلى مقاربة الأمكنة من منظار سكّانها المحلّيّين، وهي تدور حول موضوعات البؤس والدعارة والعنف والإجرام، لكنه يُضمّن في هذه الموضوعات الكبيرة انعكاسات عميقة للطبيعة الإنسانية والحب والتواضع واللطف. تختلف القصص في تقنيتها السردية وبنيتها عن النصوص الأدبية الغربية، كما عند إدغار آلان بو وغي دو موباسان، ونيقولاي غوغول. وفي نطاق الأدب العربي، تختلف عن أساليب كتّاب مثل زكريا تامر ويوسف إدريس. ويرى البستي أنّ شكري ظلّ مخلصاً لخلفيته الأدبية وغرائزه القصصية، من خلال تقديم قصص عكست حياة سكّان طنجة ومعاناتهم، وعبّرت عن المكان والزمان والمزاج.

ما يميّز شكري، بحسب المقالة، أنّه يصدم القارئ ويدفعه إلى تكوين وَعْيٍ عن الواقع في حقيقة تجلّيه. ذلك أنّ رواية القصص على حقيقتها، وليس كما يجب أن تكون، هي ما يثير الإعجاب في كتابات شكري ويؤكّد مكانته البارزة في الأدب العربي. إنّ الأوضاع الاجتماعية والسياسية المريعة للطبقات الفقيرة في المغرب جرّدت المرء من إنسانيته؛ الأمر الذي أدّى إلى انهيار القيم ومصادرة حقوق الإنسان في جوّ ساد فيه الحُكم القمعي وسيطرت الدعاية على العقول وتفشّى البؤس واللامساواة وتمّ تقييد الحريات. وهذا ما كشفه شكري عن طريق تصوير الظروف التي تعيش فيها شخصيّاته. استطاع بفعله ذلك أن يُلقي الضوء على أوضاع لن يستطيع المرء أن يكوّن فكرة عنها بطريقة أُخرى كما يرى البستي. 

إنّ التزام شكري برواية قصص الناس الذين يصارعون للبقاء على قيد الحياة يمكن النظر إليه بوصفه فعْلَ تمرّدٍ فكريّ، ذلك أن نثره، وفق البستي، يعيد إحياء الروح الثورية في وطنه، مشجّعاً على المقاومة المتواصلة وتحدّي القمع وأدواته، كما يرى أنّ انعدام الأخلاق ناجم عن القمع والظلم اللذين يفرضهما نظام فاسد يسعى إلى إسكات الجماهير وسجن المنشقّين، وهذه استراتيجية تميزت بها الفاشية. كما أشار البستي إلى نقطة هامة: "رغم أنّنا يمكن أن ننظر إلى حياة شكري بوصفها 'قصّة نجاح'، فقد تغلّب فيها الكاتب على الأمية والفقر والتهميش من خلال قوّة الإرادة، إلّا أنّه يتجنّب إبداع شخصيّات قادرة على الخروج من مصائِبها، وبدلاً من ذلك يُجبر القارئ على التفكير بالرجال والنساء اليوميّين الذين يصارعون يومياً من أجل البقاء".

مقالة روجر آلن "التاريخ الأدبي المغربي ومحمد شكري"، تحفر في اتجاه آخر، محاوِلةً أن تبني خلفية كي تضع أعمال الكاتب في سياق أوسع. يقدّم آلن في مقالته بعض الأفكار حول التاريخ الأدبي وإشكاليّاته، مركّزاً على كتابة تواريخ الأدب العربي الحديث وتطوّر الرواية العربية الحديثة في المغرب، ومكانة شكري في هذا السياق.

يقول آلن إن ثلاثية شكري، وخاصّة "الخبز الحافي"، حقّقت له شهرة كبيرة في العالم العربي، وفي العالم الغربي إلى حدّ ما، إلّا أن مُنجزه السردي لم يُدرَج على نحو كامل وفعّال في المتن الأوسع للأدب العربي الحديث؛ الأمر الذي أدّى إلى إغفال مجموعتيه القصصيّتين "مجنون الورد" و"الخيمة". ويرى آلن أنّ شكري صوتٌ يحتاج إلى أن يُدْرج في سياقٍ أوسع، في متن السرد الذي أبدعه كتّاب مختلفون في العالم الناطق بالعربية المُلهم من التراث والواقع الاجتماعي الحالي والقائم على التجريب.

عكْس سيرته الذاتية، ظلّت قصصُه مجهولةً على نطاق واسع
 

يستخدم روجر آلن في مقالته مصطلح "الواقعية الوحشية" في سياق حديثه عن قصص شكري القصيرة، وفيه ما يصلح لتوصيف تجربته الكتابية بصفة عامّة لتحديد خصوصيتها بالمقارنة مع أشكال أُخرى من الأدب الواقعي، كالواقعية القذرة التي تميّز بها مثلاً القاصّ الأميركي ريموند كارفر، والواقعية السحرية لأدب أميركا اللاتينية.

يضمّ الكتاب مقالات أُخرى تُلقي الضوء على جوانب مختلفة من تجربة محمد شكري القصصية والروائية وعلى ترجمته إلى اللغة الإنكليزية. وقد جاءت هذه المقالات بتوقيع كلّ من: قصي العتابي، وحنان بنودي، وإيان كامبل، وأنور التونسي، وتوريا خنوس، وناتالي غزال، ومبارك شريفي؛ تطرّقت كلّ واحدة منها إلى شكري من منظور مختلف.

يأتي الكتاب تتويجاً لجهود نقديّة وأكاديمية تهدف للتعريف بمحمّد شكري في اللغة الإنكليزية على نطاق واسع، وتترافق مع مشروع البستي لترجمة الأعمال الكاملة لشكري إلى الإنكليزية، والتي صدر منها حتى الآن "حكايات طنجة". يضمّ المجلّد الأعمال القصصية الكاملة، و"وجوه"، الجزء الثالث من ثلاثيّته المعروفة. إنها ثمرة جهود أكاديمية مشتركة تهدف إلى تسليط الضوء على تجارب أدبية مغايرة تشكل إضافة في اللغة العربية، تواكبها جهود تحاول أن تتجاوز الدوافع الأنثروبولوجية والأيديولوجية للترجمة نحو تقديم القصص والروايات العربية المتفرّدة فنّياً، والتي تُشكّل إضافة في جنسها الأدبي والقادرة على إغناء حساسية القرّاء في اللغة الأُخرى التي تُنقل إليها.

 

* شاعر وكاتب سوري مقيم في الولايات المتحدة

المساهمون