"جامع كتشاوة": شاهدٌ على جريمة استعمارية مزدوجة

25 ديسمبر 2023
"جامع كتشاوة" عام 1900 في بطاقة بريدية كتب عليها "الكاتدرائية وقصر الحكومة الشتوي" (Getty)
+ الخط -

في الثامن من كانون الأوّل/ ديسمبر الجاري، تعرّض "المسجد العُمري" في مدينة غزّة القديمة، والذي يعود تأسيسه إلى عهد الخليفة عمر بن الخطّاب ويُعدّ ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد "الأقصى" في القدس و"الجزّار" في عكّا، لقصف إسرائيلي، أدّى إلى تدميره بشكل شبه كامل، في حلقة أُخرى من حلقات تدمير المساجد والمعالم الدينية في غزّة بهدف طمس تاريخ فلسطين وهويتها.

في الجزائر، التي تعرّضت لاستعمار استيطاني استمرّ طيلة 130 عاماً، لم تكن السياسة الفرنسية تجاه المساجد مختلفةً عمّا يرتكبه الاحتلال الصهيوني حالياً في فلسطين. في هذا السياق، يَذكُر الباحث الفرنسي ألبير دوفو (1826 - 1876)، في دراسة له بعنوان "ملاحظات تاريخية عن المساجد والمباني الدينية الأُخرى في مدينة الجزائر القديمة" (منشورة في "المجلّة الأفريقية" عام 1961) أنّ المدينة كانت تحتوي، قبل الاستعمار الفرنسي عام 1830، على 13 مسجداً جامعاً و109 مساجد و12 زاوية صوفية.

غير أنّ قليلاً من ذلك فقط بقي إلى اليوم؛ إذ عمدت سلطات الاحتلال إلى تدمير جزء منها وتغيير الملامح المعمارية لجزء آخر وتحويله إلى كنائس أو مخازن أو مستودعات أو مبانيَ إدارية أو مراكز تعذيب أو غير ذلك؛ مثلما فعلت بـ"جامع كتشاوة" الذي حوّلته إلى كنيسة كاثوليكية بعد سنتَين فقط من احتلال البلاد.

لم يقتصر الأمر على ذلك؛ فالجريمة التي طاولت الجامع، الذي يقع في "القصبة السُّفلى" ويعود بناؤه إلى القرن السابع عشر، رافقتها جريمةٌ أُخرى؛ تمثّلت في قتْل الجيش الفرنسي، في الثامن عشر من كانون الأوّل/ ديسمبر 1832، ما لا يقلّ عن أربعة آلاف جزائري اعتصموا فيه في مُحاولة لثني السُّلطات الاستعمارية عن تحويله إلى كاتدرائية.

تقلّص عدد المساجد في الجزائر بعد الاستعمار بفعل تدميرها وتحويلها

هذه الجريمة المزدوجة استعادتها ندوةٌ تاريخية نظّمها "متحف المجاهد" في الجزائر العاصمة، نهاية الأسبوع الماضي، تحت عنوان "فرنسا وحرب الآثار: كتشاوة رمزاً للهوية وعنواناً للصمود"، لمناسبة الذكرى الحادية والتسعين بعد المئة لتحويل الجامع إلى كاتدرائية وإبادة المعتصمين فيه؛ حيث تحدّث الباحثون والأكاديميّون المشاركون في الندوة عن الإستراتيجية الاستعمارية في تدمير ومحو المؤسَّسات الدينية، لكونها "تؤدّي دوراً أساسياً في الحفاظ على مقوّمات الهوية الجزائرية".

في مداخلته التي حملت عنوان "مسجد كتشاوة في ذاكرة التاريخ"، ذكر الباحث في الآثار العثمانية، محمّد الطيّب عقاب، أنّ السُّلطات الاستعمارية الفرنسية عمدت إلى تحويله إلى كنيسة تحمل اسم "كاتدرائية القدّيس فيليب"؛ وهو الأمر الذي يقول إنّه أثار غضب الجزائريّين الذين اعتصموا داخله وفي ساحته، رفضاً للقرار، لينتهي الاعتصام بما يصفه عقاب بأنّه جريمة ضدّ الإنسانية؛ إذ قتَل الفرنسيّون أكثر من أربعة آلاف مصلٍّ جزائري، بأمر من العسكري دي روفيغو (1774 - 1833) الذي شارك في احتلال الجزائر وعُيّن "حاكماً عامّاً" لها في كانون الأوّل/ ديسمبر 1832، وارتبط اسمُه بعددٍ غير قليل من المجازر والإبادات الجماعية التي ارتكبها في غير ما منطقة جزائرية خلال سنوات الاحتلال الأُولى.

وبحسب محمّد الطيب عقاب، فإنّ الجامع، التي بُني عام 1612، خلال الفترة العثمانية، وقام حسن باشا بن خير الدين بربروس بتوسعته وزخرفته سنة 1794، يُمثّل "شاهداً على تضحيات الجزائريّين وتشبُّثهم بهويتهم"، لافتاً في مداخلته إلى تقلُّص عدد المساجد في مدينة الجزائر القديمة بعد الاستعمار، بفعل تدميرها وتحويلها إلى مؤسّسَات في خدمة الجيش الاستعماري.

فرنسا وحرب الآثار
جانب من الندوة

تضمّنت الندوة، أيضاً، مداخلةً للأكاديمي يوسف بن حليمة بعنوان "صمود مسجد كتشاوة في وجه الاستعمار"، اعتبَر فيها أنّ مذبحة 1932 تُمثّل "حلقة دموية من حلقات الإجرام الفرنسي والإبادة الجماعية التي انتهجتها فرنسا الكولونيالية لإضعاف الجزائريين وطمس هويّتهم"، وأُخرى للأكاديمي حسين مغدوري ذكر فيها أنّ فرنسا اعتمدت، منذ بدايات الاحتلال، سياسة تهديم المعالم الإسلامية، في مقابل حماية المعالم الرومانية لأغراض استعمارية.

بعد استقلال الجزائر، عاد "كتشاوة" مسجداً مثلما كان قبل الاستعمار الفرنسي، وهو ما تناوله المناضل في الثورة الجزائرية عبد الله عثمانية، الذي قرأ مقاطع من أوّل خطبة جمعة ألقاها الشيخ البشير الإبراهيمي فيه يوم الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1962، أي بعد 130 عاماً على تحويل الجامع إلى كاتدرائية.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون