ثقافة الرواية

18 اغسطس 2023
"امرأتان" للفنان العراقي جواد سليم، 1951
+ الخط -

يدرك القارئ العربي لرواية "العار" لـ جون ماكسويل كويتزي - لها ترجمة أخرى معروفة بعنوان "خزي" - أنَّ مثل هذه الرواية لا تُكتب إلّا في بيئةٍ خاصة، تختلفُ جوهريّاً، من حيث ثقافة الناس، عن ثقافة بيئة أخرى، بيئتنا مثلاً. لا يتعلّق الأمر بأي عيب، لا في الثقافة التي صدرت عنها الرواية، ولا في ثقافتنا التي أعطت روايات كثيرة مُستمدَّة من وقائع مشابهة قليلاً أو كثيراً، لرواية كويتزي. ويمكن أن نمثّل لها برواية "الحرام" لـ يوسف إدريس. وبقدر ما يُمكن الكلام عن عدم قابلية موضوع رواية "العار" للاستعارة، فإنَّ من الصعب إعارة موضوع رواية "الحرام" أيضاً إلى ثقافة مُشابهة لروح رواية كويتزي.

فالأستاذ الجامعي الذي يضاجع إحدى تلميذاته، في رواية كويتزي، يُقدَّم للمحاكمة أمام مجلس الجامعة، بناءً على شكوى من والد الفتاة. يعترف بجرمه بكلّ بساطة، ثمّ يُقالُ من وظيفته، فيغادر إلى بلدةٍ أخرى حيث ابنته التي تعمل في مزرعة. لا عنف هنا، ولا حديث عن العرض مثلاً، أو الشرف، وهو حديثٌ ذو طابعٍ شعائري يستغل داخل البنية العشائرية والقبلية العربية، ويُعمم داخل المجتمعات المدنيّة أيضاً، بينما تقرّر ابنته لوسي، بعد أن تتعرض للاغتصاب من قبل عصابة من السكان الأفارقة، أن تحتفظَ بالجنين، رغم اعتراض والدها؛ وهو اعتراضٌ يرفضه الأب فقط، دون أن ينظرَ للمسألة من باب الشرف أيضاً. في حين تضطر عزيزة، في رواية "الحرام" لقتل ابنها بعد ولادته كي لا يعرف زوجها، ولا يعرف الناس بأنّها حملت سفاحاً. ثمّة عشرات آلاف النساء اللواتي قُتلن، أو قتلن أنفسهن، بعد حادثةٍ مشابهة في حياتنا وثقافتنا.

لا يكتب الروائي ليُدين أو ليبرّئ، علينا نحن القرّاء أن نفعل ذلك

ولكنَّ المسألة لا تتعلّق فقط بهذا في رواية "الحرام"، بل بتلك الخلطة البشرية المتناقضة من الفلاحين الفقراء المُستقرّين و"الغرابوه" أو العمال المرتحلين الباحثين عن العمل والقوت، إنّها لحظة مصريّة صميمة لا يكتبها إلّا كاتب مصري.

وبعيدا عن العنوان، فإنّ الروائي في "العار" لا يتدخل في السياق. لا ليدين، ولا ليبرئ، وعلينا نحن القرّاء أن نفعل ذلك. هنا تبدو قراءة الرواية ملزمة لمعرفة الثقافات، وتقبّل العالم والمنطق الذي يحكم العلاقات الاجتماعية، ومفهوم العدالة، والحساب في تلك الثقافة، أو رفضه بالطبع.

كما أن الدلالات التي يمنحها كويتزي لكلمة العار، مختلفة تماماً عن المعاني والدلالات التي يعرفها المعجم العربي، فالعار هناك أو الخزي، يتعرّض لإعادة إنتاج مُستمدّة من الثقافة، وطرق العيش، وسوف يفاجأ القارئ بأنّه ناجمٌ عن سلوك الرجل لا المرأة التي تواجه الاغتصاب، ولا يحمل أي مطلق، إنّه عار أو خزي الموقف، بينما يحمل عنوان "الحرام" جميع الدلالات التي نعرفها نحن عن جريمة الشرف، حيث تُدان المرأة وحدها، لا لأنّها تخلّت عن ابنها، بل لأنّها حملت، على الرغم من أنّها قد اغُتصبت من قبل من استغل حاجتها وفقرها.

تظهر الرواية، في أي ثقافة، على أنّها النوع الأكثر قدرة على منح اللغة، أو مفردات اللغة، ومنها مفردات كادت تلتصق بدلالاتها، معانٍ جديدة تُغني المخيّلة، والتفكير، وتوسّع الرؤيا لدى البشر. 
 

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون