تهبُّ الرياح.. ولا أحد يذرّي قمحه!

20 مارس 2021
عمل لـ غيلان صفدي/ سورية
+ الخط -

في جو التماثُل وانعدام التجريب، والركود الراهن على معظم الخطاب العربي بمختلف تجلّياته، أتذكّر تمريناً مدرسياً بسيطاً يُسمّى "املأ الفراغ". في هذا التمرين كلمةٌ ناقصة أو بضع كلمات في سياق ما، وتكون هذه الكلمات المنتزَعة من السياق مصفوفةً عشوائياً عادةً في سطرٍ مستقلّ، وعلينا إظهار "براعتنا" و"ذكائنا" بأن نتعرّف على الكلمة المطلوبة لنملأ بها الفراغ. الفراغ بين السطور والفراغ في الذهن في آن واحد.

بهذه الطريقة تُرسِّخ فينا المؤسّسة منذ الصغر أنَّ بنية الكلام أو التعبير جاهزة، قبل أن نُخلَق. وحتى حين لا تبدو كذلك (تنقصها كلمات)، فهذه الكلمات جاهزة وموجودة أيضاً، وكلّ ما علينا فعله، أو كلّ ما على الكائن الإنساني فعله في عماء الوجود، هو التقاطها من المصفوفة العشوائية. الكلمة الناقصة موجودة، كما زعم أحدهم ذات يوم وهو يجلس في خيمته، كما "الحقيقة" الضائعة مثل جمل في صحراء، وليس على طالبها إلّا أن ينهض ويمتطي راحلته، وسيأتي بها حتماً.

قد تكون هذه المصفوفة ممّا وفّره كَتَبة المنهج المدرسي، أو ممّا وفّره المرجع الديني، أو الديوان الشعري، أو ممّا تُوفّره صنوفٌ مِن المراجع التي ترافقنا طيلة حياتنا.

بهذه الطريقة يُعَدّ الفردُ للانخراط، ليس في جماعة فقط، بل وفي ثقافة تُزوّده بكل ما ترى أنه يلزمه ويكفيه. مثل هذا الكائن، الذي هو أنت أو أنا أو هو، سواء كان كاتباً أو شاعراً أو روائياً أو مفكّراً أو من عامّة الناس، سيعيش تحت سقفِ وظلال اللغة الجاهزة، كلاماً وتعبيراً، متوهّماً أنه طائر حرٌ في الفضاء. يرسمونه طائراً على ورقة ولكن بلا مدى.

لا يأتي الأفق من أي بنية مغلقة، بل يأتي من التجربة

ما الذي نفعله، أو يجب أن نفعله، لنكون جديرين بألقابنا ودرجاتنا؟ أن نُبرز براعتنا في اختيار الكلمة المناسبة ووضعها في الفراغ المناسب. وعلينا بالنماذج الشهيرة والراسخة التي سيكون ما عدا طرائقها باطلا أو أعجميا. هذه النماذج هي نوافذنا على كلّ ما يخطر ببالنا من قضايا وجودنا. وما هي قضايا وجودنا؟ هناك وصفات جاهزة أيضاً. وما هي الأسئلة؟ هناك أسئلة وأجوبة حتى. ولذا أعتقد أننا نجتاز امتحانات طفولتنا، وكلّ امتحان يصادفنا في ما بعد، بالاستعانة بأشباح تساعدنا، فنغشّ ونُخادع أنفسنا بفضل ما تُلقيه على أسماعنا من همسات مشفقةٍ أحياناً أو آمرة وصارمة في أحيان أُخرى.

هذا هو المشهد الذي نستيقظ عليه وفيه، ويأسرنا من دون أن نعي أنّنا في قبضة المؤسسة وأشباحها. المفقود في هذه الحالة بالطبع هو الأفق، أي الممكن الكامن والمحتمل الذي ينقض الثابت ويتحدّاه. الأفق لا يأتي من الكلام ولا من القالب ولا تهبنا إياه أي بنية مغلقة، بل يأتي من التجربة، وتهبنا إياه غوامض الالتباس على الحافة القلقة الفاصلة بين الأبيض والأسود. إنه الأفق، أي كل ماهو غير متوقع.

يعلّمنا التمرينُ المدرسي ظاهر البراءة أن الالتباس حالة عابرة. ولكن بعض الثقافات تعلّمنا العكس. وخاصة الثقافات الخارجة على البنية، أو المضادة للبنية كما تسمّى، وأشهرها ثقافة التوحيد الهندية المسمّاة "الباكتية". تقيم هذه الثقافة تمييزاً بين المتلقّي والمتذكّر (شروتي وسمرتي) وبين التجربة في التو واللحظة (أنوبهافا)، أو تقيم تمييزاً أعمق بين الطقوس، سواء كانت شعريّة أو دينية أو اجتماعية أو سياسية، وبين غايتها الأصلية. وتقيم تمييزاً بين سثافارا، الثابت، وبين جانجاما، المتحرّك. فإذا كان التذكّرُ والتلقّي استرجاعاً لتجربةٍ، والطقسُ تمثيلاً لمكرورٍ، فالتجريبُ نقيض الاثنين معاً.

ما يتجاهله المتذكّرُ والمتلقّي هو أن الكينونة حالة صيرورة، وما يعنيه الطقسُ هو أنّ التقدّم سعيٌ نحو بداية وجهدٌ لتكرارها. لهذا السبب تحمل اللغة العربية وتحفظ لنا دلالةً طريفة من نوعها على معنى الأوائل والأواخر؛ الأول هو السابق دائماً في كلّ شيء، والمتأخّر هو اللّاحق دائماً في كلّ شيء، كأنّ الزمن يتراجع في اللغة عائداً دائماً نحو البداية/ النهاية حتى وإن لمسه الإنسان بكافّة حواسّه متقدّماً.

يعلّمنا التمرينُ المدرسي ظاهر البراءة أن الالتباس حالة عابرة

على الإنسان، وفق هذا المنطق اللغوي، إن أراد التقدُّم أن يعود إلى الوراء ليلحق بالأوائل. وتضيف اللغة التقليدية دلالة أُخرى على معنى "الأصالة" أيضاً أكثر طرافة؛ إنها لا تعني ما تعنيه في اللغات الأُخرى، أي التفرّد، بل تعني تحديداً استنساخ أصلٍ أو جذر ثابت، التماهي معه أو محاكاته بوصفه الهوية الأولى، ولا شيء غير الأولى بالطبع، لأنَّ كلّ تعاقب في الزمان فسادٌ يصيب الهوية والأصل، وكلُّ تعاقب ابتعادٌ عن النبع الأصلي، وكلُّ تغير وصيرورة إفسادٌ للنقاء الأصلي.

حين نصل إلى هذه الافتراضات الضمنية القارّة في عمق الخطاب العربي، لا يدهشنا الجهد المبذول باتجاه التماثل وترجيع أصداء الرنين الأول، أو المشهد الذي نتذكّره ونتلقّاه، وتبثّه فينا ثقافة المؤسّسة (الشعرية والدينية والسياسية والاجتماعية على حدٍّ سواء) بوسائل مختلفة.

في التجربة وحدها لا نتماثل بقدر ما نختلف. لا نرجع إلى أصل بقدر ما نتفرَّد. لا نتذكّر بقدر ما نُجرّب ونقول. لسنا ظاهرة صوتية إلاّ في لحظة عابرة من التاريخ، ولسنا أيتاماً إلّا لأنّ الغرب أضاء عراءَ وجودنا. في هذه اللحظة وفي هذا العراء يتحجّر معنى العبادة في الطقس، ومعنى الشعر في صياغة الألفاظ، ومعنى الحياة في استظهار الكلمات.

في التجربة وحدها يولد الإنسان مرّةً ثانية. لا يتوقّف عند ميلاده العضوي الأول، ولا عند ثقافته التي اندرج في إطارها فأصبحت بالنسبة إليه كالماء بالنسبة إلى الأسماك، ما أن يتخارج عنها بوعيه حتى تصادفه مخاوف الضياع والموت. الاندراج في قالب بيئة وثقافة (تنطوي على الزمان كلّه بمواصفات اللغة العربية التي ذكرنا) يُكيّف الإنسانَ نفسياً وعضوياً حتّى، بحيث يستعصي عليه الدخول في قالب آخر، تماماً كما تستعصي الحياة على الأسماك في الهواء الطلق، وكما كانت تستعصي على المحكوم عليه بالنفي في أيام دولة المدينة اليونانية.

أمرٌ بديهيّ إذاً في مثل هذه الوضعية الغريبة، في نظر المتخارجين عنها، أن يسعى الإنسانُ، واعياً أو بلا وعي، إلى تجنُّب الدخول في التجربة، لأنّ التجربة امتحانٌ للكينونة، وخروجٌ من الرحم الأولى، حيث جنّة التماثُل والتكرار والأمان، إلى مهب العواصف.

شخصية عامة غير مسؤولة ليست "الأنا" بل البديل أو القناع

لا أحد يعرف متى تهبّ الرياحُ، ولهذا على الإنسان أن يكون مستعداً ليذرّي قمحه في كل لحظة. هذا هو ما يقوله متصوّف هنديّ يعمل نوتياً على سفينة. ولكن من يجرؤ على وضع نفسه على حافة خطرة مثل هذه؟ إنّ لنا في الكينونة المستقرّة (سثافارا بالتعبير الباكتي)، أو نسيان الوجود العميق بتعبير هايدغر، ولنا في المؤسّسة والقالب وتحت السقف المألوف، شخصية عامة غير مسؤولة (أي غير مخاطبَة شخصياً) تمتلك كامل مواصفات الكينونة. هي ليست "الأنا" بل البديل أو القناع أو الدور. وقد تكون كلّ هذا مجتمعاً، ناشطة فكرياً وجسدياً، إلاّ أنها ليست "الأنا" الحقيقية، أي الذات المخاطَبة والمعنية بالخطاب الإنساني والطبيعي والإلهي بالأصالة لا بالنيابة.

ولهذا السبب بالذات يفتقر الخطابُ العربي بعامّةٍ، وهو يمثّل شعرياً وفنياً وفكرياً وسياسياً، إلى مبدأ وثراء "الحوار"، أعني مبدأ إلقاء الذات في مهب التجربة: مواجهة الآخر والطبيعة والوجود وقد عَلّقت ثوابتها وسلّمت بحالةِ لا تحدّدها وإمكانية أن تتغيّر وتتبدّل. مفهوم الحوار السطحي الشائع هو المبدأ الحاكم: أن نلتقى بالآخر والطبيعة والوجود ونحن وراء نوافذنا، ونتطلّع إليه من عمق آبارنا. ولا يجب أن تخدعنا ادعاءات من يرحلون إلى "الآخر" على الخريطة أو الأرض، فهم يحملون معهم نوافذهم وآبارهم أيضاً.

صحيح أننا نحن من يصنع الكلام، ولكن الكلام يصنعنا أيضاً. وفي مرحلة تاريخية معيَّنة، مثل التي نعيشها الآن، وتتميّز ببطالة اليد والفكر معاً، يتوقّف الإنسان عن التجريب. وفي مثل هذا الغسق يتسيّد الكلامُ ويصبح الصانع الأمهر والوحيد إلى أن يتوهّم الإنسان أنّ الكلام هو الأصل لا الجسد، وأنّ الطقوس هي الحياة لا التجارب، وتحت سقف هذا الوهم تصبح حركته في الألفاظ ومنها وإليها.

هكذا أو لهذا، يقول بعضهم إنّ العرب ظاهرة صوتية، ويضيق بعضهم ذرعاً بالبلاغة، وهناك من يُسلِّم نفسه لغيمةٍ عابرة منقطعاً عن أي مشهد أو حوار سوى ما يهجس به. ولكن حتى في هذا الأنواع من الرفض نجد الخطاب ذاته ومسلّماته يواصل مفاعيله. يستبدل الرافضون تمارين "املأ الفراغ" المدرسية بأُخرى ولا يمحون التمرين نفسه، ويصنع الخارجون إلى الغيوم مشهداً منقطعاً آخر، ويُلقي الواقفون على الحافّة بحبال لتيسير القفز منها. الكلُّ يتماثل مادام في العتمة ذاتها، وتحت السقف ذاته.


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

المساهمون