في الشهور الماضية طُرحت، في هذه الصفحات، عدّة قضايا في شهادات المترجمين الذين يطلّون علينا من حين إلى آخر بخبرات متنوّعة، مُرّة وحلوة، مع الناشرين من عرب وأوربيين. وأودّ هنا تناول قضية أخرى تتناول حقّ الناشر في تعديل العنوان الأصلي للكِتاب، سواءً بحسن نيّة لصالح الكتاب المترجَم، أو لأسباب أخرى تدخل فيها دوافع مختلفة.
من النوع الأوّل لدينا، مثلاً، ثلاث روايات للكاتب الألباني المعروف إسماعيل كاداريه بثلاثة عناوين صدرت عن دور نشر مختلفة وتُرجمت من لغات مختلفة واشتُريت في معارض الكتب على أنها ثلاث روايات، بينما هي في الحقيقة رواية واحدة: الأولى "الحصن" التي ترجمها من الألبانية عبد اللطيف الأرناؤوط وصدرت في دمشق عام 1986، والثانية "طبول المطر" التي ترجمها محمد عضيمة عن الفرنسية (بيروت، 1990)، والثالثة "الحصار" التي ترجمها عن الإنكليزية محمد درويش (بيروت، 2009).
في العادة، لدى دور النشر العريقة، قد يكون العنوان الأصلي غير مناسب للترجمة إلى اللغة الأخرى، أو غير مناسب للتسويق، ولذلك تضع دار النشر في الصفحة الثانية العبارة المعهودة: "العنوان الأصلي للكتاب..."، وبذلك ترفع الحرَج والمسؤولية الأخلاقية عنها، وهو ما فعلته دار النشر الفرنسية التي نشرت رواية "الحصن" لكاداريه بعنوان "طبول المطر" المستوحى من الرواية بطبيعة الحال.
تغيّر بعض دور النشر العريقة العناوين لكنها تشرح ذلك وتشير إليه
أمّا عدم الالتزام بذلك فقد يؤدّي إلى إعادة ترجمة الرواية من لغة أخرى بعنوان جديد، وهو ما قد يكون مبرّراً إذا تبيّن أن الترجمة الأولى قصّرت أو فشلت في نقل الرواية من لغة إلى أخرى.
ولكنّ هذا يهون أيضاً ــ لأنّ تلافيه ممكنٌ بترجمة أخرى ــ أمام ممارسة بعض الناشرين لحقٍّ لم يرد في عقدٍ أو عُرفٍ مِهَنيّ، ألا وهو تغيير عنوان الكتاب لتوجيه القارئ نحو مزاجٍ يروق للناشر. وهذه الممارسة تبدو حسّاسة أكثر في العلوم الاجتماعية، ولا سيّما في التاريخ.
ومن ذلك لدينا، على سبيل المثال، كتاب المؤرّخ التركي المعروف حسن كيالي، المقيم في الولايات المتحدة، "العرب والأتراك الجدُد: العثمنة والعروبة والإسلام في الدولة العثمانية (1908-1918)"، الذي صدر بالإنكليزية في 1997 ثم تُرجم إلى العربية عام 2003 في دمشق بعنوان "الحركة القومية العربية بعيون عثمانية (1908-1918)".
وكما هو واضح من هذا الكتاب المهمّ، الأول في تناوله الموضوعيّ لتفاعل التيّارات الرئيسية التي برزت على الساحة في المرحلة الدستورية الجديدة فإنّ المؤلّف أراد أن يستعرض كيف أنّ الحرية الجديدة التي تمثّلت في الصحافة والساحة البرلمانية سمحت وساعدت على تبلور أفكار واتّجاهات جديدة قومية من العثمنة والإسلام لم تكن بالضرورة مبنية على أسُس إثنية. ولكنّ هذا التغيير للعنوان الذي يقوم على "مقاربة الأبيض والأسود" يجعل القارئ يفترض منذ البداية، على نحو مبسّط، أن المواجهة كانت منذ البداية بين طرفين متبلورين على أسُس فكرية واضحة.
ولكنّ الكتاب، في واحدٍ من أهمّ أقسامه ــ وهو عن الاستيطان الصهيوني في فلسطين ــ يستعرض النقاشات التي بدأت بالصحافة الواعية لحرّيتها الجديدة وانتقلت إلى ساحة البرلمان العثماني؛ يوضح أن "مقاربة الأسود والأبيض" لا تنطبق عليه، وأنه لا يمكن للعنوان أن يُغيِّب ما هو موجود في صفحاته.
ففي الكتاب، مثلاً، يتّضح أن النواب العرب توزّعوا على عدّة أحزاب جديدة، بما فيها "حزب الاتّحاد والترقّي"، بل إنّ نصف النوّاب العرب في البرلمان كانوا يؤيّدون القرارات التي يقترحها هذا الحزب الذي تحوّل من جمعية سِرّية إلى حزب في عام 1909. كما يتّضح من خلال تحليل مناقشات البرلمان حول الاستيطان الصهيوني أن النوّاب العرب لم يكونوا كتلةً واحدة فيما يتعلّق بهذا الموضوع، بل إن النقاش العنيف ضد الاستيطان ومخاطره قادَهُ نوّابٌ أتراك وعرب (لطفي فكري، وإسماعيل حقّي، وروحي الخالدي، وشكري العسلي وغيرهم).
تحريف عنوان بحسب المزاج قد يقوّل الكتاب ما يناقض مقولته
ومن الكتب التي صدرت حديثاً حول هذا الموضوع كتابُ "دراسات عثمانية" (صدر بالإنكليزية عام 2019 وتُرجم إلى عدّة لغات) للمؤرّخ التركي المعروف إلبر أورطايلي، الذي تُرجمت بعض أعماله إلى العربية. ففي هذا الكتاب لدينا فصلٌ مهمّ بعنوان "العثمنة والصهيونية خلال المرحلة الدستورية الثانية (1908-1915)"، ولا ينسجم مع "مقاربة الأسود والأبيض" في معالجة مثل هذه المواضيع التاريخية.
إذ يوضح أورطايلي، في هذا الفصل، بالاستناد إلى الوثائق، أنّ كلّ اليهود العثمانيين لم يكونوا مؤيّدين للصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، كما أن زعماء ورجال "حزب الاتّحاد والترقّي" لم يكونوا من لونٍ واحد، فبعضهم جاهَرَ بتعاطفه أو تأييده للصهيونية بينما عبّر بعضهم الآخر عن رفضه وقام باعتقال بعض الناشطين الصهيونيين في فلسطين في بداية الحرب العالمية الأولى، وهو ما جعل الحركة الصهيونية تُراهن على الطرف الآخر (إنكلترا) للحصول على وعدٍ بـ"وطنٍ قوميّ" لها في فلسطين.
والأمل هنا ألّا يقع هذا الكتاب في يدِ أو مزاجِ ناشرٍ يختار له عنوانا من عنده، كما حدث لكتابه "القرن الأطول للإمبراطورية"، أي القرن التاسع عشر الغنيّ بالتطوّرات والتحوّلات الفكرية والسياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدولة العثمانية، والذي صدر في العربية تحت عنوان "الخلافة العثمانية: الحداثة والتحديث في القرن التاسع عشر". فمَن اختار الكتاب من أنصار "الخلافة العثمانية" شعروا بالإحباط لاكتشافهم أن "الخلافة العثمانية" تغيّرت مع الإصلاحات أو التنظيمات (في التعبير العثماني) التي استلهمت "أوروبا الكافرة"، أو انتهوا إلى أنّ السلطان عبد الحميد أراد إعادة الاعتبار لـ"الخلافة العثمانية" بتعطيل الدستور في 1878، والذي يروّج لبدعة حقّ الشعب في مراقبة ومساءلة الحكومة أمام البرلمان!
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري