أعاد حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أكثر من مناسبة خلال الفترة الأخيرة، عن أهمية تعلُّم الأجيال الجديدة للغة العثمانية، فتْحَ النقاش مرّةً أُخرى حول المسألة. وبينما يعتبر معارضو هذه الفكرة أنّها جزء من "العثمانية الجديدة"، ويرون ألّا فائدة من تعلّم العثمانية لأنها تقتصر على قراءة النصوص المكتوبة على شواهد القبور، يرى آخرون، وعلى رأسهم الرئيس التركي نفسه، أنّ المشكلة تكمن في هذا النمط من التفكير، لأنّ شواهد القبور تحمل تاريخاً وحضارة، وأنّ عدم معرفة الأجيال الجديدة بما كُتب عليها ليس إلا "الجهل الأكبر".
من المعروف أن الأتراك كانوا يستخدمون الحروف العربية في الأبجدية العثمانية حتى قام أتاتورك باستبدالها عام 1928 بالحروف اللاتينية ضمن عدة إجراءات أُخرى، وعُرف موضوع تغيير الأبجدية هذا بـ"ثورة الحروف". وتسبّب ذلك في انقطاع الأتراك عن تراثهم العثماني، وخصوصاً الأجيال الجديدة التي لم تعرف شيئاً عن هذه الأبجدية، وبالتالي لا يمكنها الاطّلاع على تراثها وثقافتها المكتوبة بالحروف العثمانية.
وبالفعل، في السنوات الخمس الأخيرة تم إدخال العثمانية في "مدارس إمام وخطيب" الدينية، كلُغةٍ إلزامية، وبشكل اختياري في بقية مدارس المرحلة الثانوية. إلا أن مسألة تدريس العثمانية في السنوات الماضية قد اقتصرت بشكل عملي على "مدارس إمام وخطيب" فقط، وهو ما جعل كثيرين يفسّرون عودة الرئيس إلى التذكير بالأمر من جديد كمؤشّر إلى الذهاب لخطوات أكثر عملية لتسهيل عملية تدريس العثمانية في مدارس المرحلة الثانوية. ومع عودة الموضوع إلى النقاش مرة أُخرى في الأيام الأخيرة، انقسم المثقفون الأتراك بين مؤيد للفكرة ورافض لها، ومن يرى أنها يجب أن تقتصر على المختصين فقط.
المشكلة في مسألة تعلّم العثمانية أنها تُناقَش دائماً في سياقات سياسيّة
في هذا السياق، يقول المؤرخ التركي البارز إلبير أورتايلي لـ"ألعربي الجديد": "أراد السياسيون أولاً أن تُدرّس العثمانية في كل مدارس المرحلة الثانوية، ولكن بعد ظهور الكثير من الاعتراضات على ذلك، اقتصر تدريسها على مدارس إمام وخطيب. ولكن برأيي، لا يوجد فرق لأن أغلب هذه المدارس لا تُعلّم العربية في الأساس بشكل جيّد. إننا بحاجة إلى أساتذة لديهم طرق تعليم جيدة، وفي نفس الوقت طلبة لديهم شغف ورغبة في التعلُّم. يجب ألا تقتصر معرفة العثمانية على مجموعة معينة، وأن يتم دعم تعليم العثمانية في الجامعات التركية بشكل أكبر، لأنها لا تُؤخذ على محمل الجد للأسف. الأمر ليس سهلاً، فمن أراد أن يتعلم العثمانية عليه أن يكون مُلمّاً أيضاً بالعربية والفارسية. لا نريد بروباغندا سياسية حول تعلم العثمانية، نريد حملة حقيقية تكون نتائجها واضحة في دعم المختصين الذين يُعلّمون العربية والفارسية واللاتينية مع العثمانية أيضاً".
بينما ترى الكاتبة واللغوية سيفجي أوزال، رئيسة "جمعية اللغة التركية"، أن "اللغة العثمانية لم تكن لغة الشارع في العهد العثماني، بل لغة النخبة دائماً. ولم يكن العثمانيون يتحدثون أو يكتبون بها. وقبل الجمهورية، كان الذين يعرفون هذه اللغة هم ستة في المئة فقط تقريباً من الرجال، وصفر في المئة من النساء. ولم يكن لديهم أي علاقة بهذه اللغة. وتركيا ليست هي الجمهورية الأولى أو الوحيدة التي تقوم بعمل ثورة لغوية. إنني أتعجّب من مجرد طرح فكرة وضع العثمانية حتى كمادة اختيارية في مدارس المرحلة الثانوية".
أما الشاعر والصحافي عمر أردام فيرى في حديثه إلى "العربي الجديد" أن "تعليم العثمانية اليوم مسألة مهمة وضرورية، ولكن يجب أن تكون أولاً خارج أي برنامج سياسي. كما يجب أن نفكر في مدى الاستفادة من تعلُّمها. وبرأيي، ينبغي أن يكون تعلّمها اختيارياً لكل من يريد أن يقيم تواصلاً بين ثقافته وتاريخه. دروس التركية الحديثة إلزامية ولكننا رغم ذلك نرى الأوضاع غير جيدة في هذا السياق. ولكن تبقى المشكلة في مسألة تعلُّم العثمانية أنها تُناقش دائماً في سياقات سياسية. يجب أن نُخرج هذه النقاشات من السياسة إلى الواقع والثقافة. إن أغلب الأتراك ينظرون إلى الكتب العثمانية نظرة عاطفية لا يمكن الاستفادة منها لجهلهم بالعثمانية. ولذلك يجب تقديم بدائل تُسهّل تعليم العثمانية للجمهور الذي يرغب في ذلك".
العثمانية لم تكن لغة الشارع يوماً، بل لغة النخبة دائماً
وعلى عكس ذلك، يرى الشاعر والإعلامي سركان تُرك في حديثه إلى "العربي الجديد" أنه "لا فائدة من تعلم العثمانية اليوم، لأن هناك مؤسسات موجودة بالفعل وتقوم بتعليم العثمانية. كما توجد بعض الأقسام في الجامعات التي تُدرِّس العثمانية منذ سنوات. إلا أن العثمانية غير مستخدمة في المجتمع منذ قرن تقريباً، وخلال هذه الفترة يجب أن تكون أغلب الكتب العثمانية المهمة قد تُرجمت بالفعل. يجب دعم المؤسسات المختصة بالعثمانية لتترجم لنا بقية هذه الكتب إلى التركية الحديثة. إن اللغة العثمانية يتم استخدامها من قبل النظام حالياً لكي يجمع الأصوات الانتخابية من القوميين. والشعب الذي لم يتعلم التركية الحديثة بشكل جيد حتى الآن، لا يمكنه في رأيي أن يتعلم العثمانية القديمة".
وتختلف المؤرخة أوزلام كومرولار مع ربط العثمانية بالقديم دائماً، حيث تقول في حديثها إلى "العربي الجديد": "هناك مؤسسات متنوعة في تركيا تهتم بتعليم العثمانية، ومستوى هذه المؤسسات متفاوت. وبغض النظر عن مستوى هذه المؤسسات يبقى تعليم العثمانية في تركيا أفضل من اللغات الأُخرى. لقد خلقوا صورة سياسية في السنوات الأخيرة للغة العثمانية أبعدت الناس عنها، وتم اعتبارها لغة "العودة إلى القديم"، وهو ما جعلها لغة شريحة معينة من المجتمع التركي. لقد تم ارتكاب خطأ كبير بحق اللغة العثمانية دون أن ندري".
وتستطرد كومرولار: "يجب أن نتعلم العثمانية، ليس فقط من أجل قراءة ما يُكتب على قبور أجدادنا، ولكن لكي نتعلم كل ما كُتب قبل الانقلاب على الحروف العربية. وفي رأيي، يجب على كل مواطن تركي أن يتعلم قليلاً من العثمانية. وألا يقتصر الأمر على المؤرخين والباحثين، بل يجب أن يشمل الجميع لكي يتمكنوا من قراءة المجلات القديمة والوثائق وأشعار أجدادنا. ويجب ألا ننسى أيضاً أن الانتقال إلى الحروف اللاتينية يعني أن "ثورة اللغة" كانت من أكثر المبادرات نجاحاً في ثورات الجمهورية... تحويل بعض البلاد أبجديتها إلى اللاتينية في السنوات الأخيرة يُظهر بُعد نظر أتاتورك في هذه المسألة".
بينما يرى مثقفون آخرون أن تعليم العثمانية يجب أن يقتصر على المختصين فقط، ومن بينهم الكاتب والروائي أدهم باران، إذ يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "في رأيي، يجب أن يتم تدريس العثمانية في الجامعات للمختصين، لكنني لا أتصور أنها ستكون مفيدة في المرحلة الثانوية وما قبلها، لأنها لن تفيد الأحلام المستقبلية للطلاب. وفي ظل نظام التعليم الحالي الذي يتضمن لغة أجنبية واحدة، وهي الإنكليزية، تتم مناقشة وضع لغة أجنبية ثانية، فهل ستكون العثمانية مفيدة في هذا السياق؟ لا أدري. لدينا ميراث عثماني كبير، وتوجد مؤسسات ومختصون يعملون على إحياء هذه الثقافة والاستفادة من هذا التراث، وهذا كافٍ في رأيي".