أخال أو أقترح أنَّ بالإمكان التعامل مع سورية، البلد المعروف، التعاملَ ذاته مع نصٍّ أدبي ينتمي إلى مدارس متشابكة. فهو بلدٌ ليس آخر مراحل العبث الذي شهده أن يدّعي أحد رموز جهاز الحكم فيه، كي لا نفترض أنّه نظام/ دولة كما هو سائد في روايتَي المعارضة والسلطة. فالمهم في الحكاية، أنَّ أحد أهمّ رموز هذا الجهاز، وفي إثر زلزال طبيعي، ادّعى أنَّ الله زوّده بسرّ، وأنّه مكلّف تكليفاً إلهيّاً. ولا يُستبعد أن يدّعي أنّه المهدي، أو أنّه ابن الإنسان، لولا أنّ جميع الكائنات تعرفه ابناً لجهاز الحكم.
حسناً، إنّها ليست نكتة. والمقال ليس في وارد قراءة الحدث واقعيّاً، إذ يصعب أن يكون حدثاً واقعيّاً مع أنّه كذلك. فعدا عن تعقيد المشهد برمّته؛ إنّني مأخوذ، كروائي، بالاحتمال الذي ابتكرته المأساة السورية، التي انطوى داخلها زلزال بدرجة 7.8 على مقياس ريختر، من غير أن يُحدث أي تغيير.
بمقدور الكتّاب السوريّين أن يتساءلوا عن دورهم، فالمأساة كتبت نفسها بصورةٍ؛ أيُّ محاكاةٍ لها ستبدو قاصرة. الواقع تفتّق عن احتمال لا يمكن أن يُصدَّق. الزلزال جاء، وأحضر معه مزاعم التكليف الإلهيّ. وكان يمكن أن أُغامر وأقول إنّ هذه الشخصية بلغت ذروتها الروائيّة، لولا أنّنا تعلّمنا أنَّ الأيام السورية تأتي بما لا يمكن تصوّره. فمن يكتب هذه الرواية، هذه الملهاة المفتوحة التي تنطوي على حسّ تراجيدي لا يُضاهى، وكأنّما يكتبها بعقل سردي يفجّرُ الاحتمال تلو الآخر، وصولاً إلى استنزافٍ قهري للمعقول.
كَتبت المأساةُ نفسها بصورة ستبدو معها أيّ محاكاة قاصرةً
المسألة تتعقّد عندما ندرك أنّنا، كسوريّين، لسنا أبطالاً، حتّى في منظور التراجيديا لم نكن أبطالاً. وقد التصق دور الضحية بنا؛ بدءاً باللاجئين الذين هم ضحايا مؤكدون، إلى النظام الذي لم يفتأ الادّعاء بأنّه ضحية مؤامرة كونية، إلى المعارضة التي تقول إنّها ضحية تآمر العالم على الثورة. ودور الضحية طال حتّى الذين بقوا في بيوتهم، فهم رهائن لقوى الأمر الواقع. إنّهم ضحايا؛ بل إنّهم ضحايا غير معلَنين.
كان يمكن لحكاية هذا البلد أن تكون روايةً مشغولة بفنّية ساحرة. لكنّها ليست كذلك البتّة، لأنَّ فيها دماءً ومعتقلين وضحايا الفقر وغياب التعليم والطبابة، وغياب العدالة منذ البدء. إنّها تراجيديا إذاً. تراجيديا غياب العدالة. ولكنها تُكتَب خارج المألوف في السرد، إنّها مفاجأة السرد، فهي لا تزال مفتوحة على الاحتمالات التي لا يشغل المتابع مدى واقعيتها، بقدر ما يشغله مدى استحالتها.
الكتابة بتعاريفها كافة هي افتراض الواقع، بناءٌ على الواقع، انزياحٌ عن الواقع. وفي ما يخصّ البلد المعروف باسم سورية. فعلى الأرض، ما حدث ويحدث وهو مستمرّ بالحدوث، يندرج في إطار أدب اللامعقول. مع الإشارة إلى أنّه بسبب واقعيته، فالكتابة عنه أقرب لأن تكون توثيقاً مكروراً للواقع.
هذه ليست دعوة ليأس الكتّاب، مع أنّ الرواية التي تُدعى سورية كتبت نفسها بصورة تراجيديا محكمة، أبطالها ينظرون إلى أنفسهم كضحايا للأقدار. ولم يكن ينقص هذا البلد المعروف باسم سورية إلا الزلزال، الحادثة الطبيعية، كي يجد التفكير الغيبي ملاذاً بين الناس الخائفين، ومن ثمّ كي يجدوا بدورهم ملاذاً بالعودة إلى التفكير الغيبي. إنَّها ليست دعوة ليأس الكتّاب في مطالع العام الثالث عشر لتراجيديا غياب العدالة، بل دعوة للتعلّم من فنون الواقع.
أمّا عن الغد، لننتظر حتّى يكشف الزمن عن وجه النهاية، استدلالاً بالبلهول في قصيدة "الوقت" للشاعر أدونيس، التي نقرأ فيها: "كشف البهلول عن أسراره/ سيكون الصّدق موتاً/ ويكون الموتُ خبز الشعراء/ والذي سمّي أو صار الوطن/ ليس إلا زمناً يطفو على وجه الزمن".
* روائي من سورية