رحل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930 - 2002) منذ قرابة عقدين، ولم يخفت حضوره في المشهد الفكري، وكأنه لا يزال يطوّر فكره السوسيولوجي ويُطبّقه على الواقع. من المؤكّد أن منجزه يتضمّن عناصر تتيح له هذه الاستمرارية، ولكننا يمكن أن نقف على سبب آخر، هو الرعاية التي تمارسها ثقافة ما لإعادة إنتاج مفكّر.
إعادة الإنتاج هذه هي الشرط الذي يجعل من هذا المفكّر أو ذاك راهناً باستمرار، أي قادراً على مواصلة الإجابة عن الأسئلة والإشكاليات التي يُفرزها الواقع. وفيما لم يعد هو قادراً بنفسه على تقديم الإجابات بعد رحيله، فإن "أجهزة" إعادة الإنتاج تحقّق ذلك بدلاً منه. فبفضل أية أجهزة يواصل بورديو حياته الفكرية؟
خارج ثقافته، تمثّل الترجمة الجهازَ الأساسي لإعادة الإنتاج. ومن المعلوم أن الترجمة تتيح للمفكّر أن يشتبك - دون حضوره - مع قضايا الثقافةِ الذي ذهب إليها نصُّه، وقد ساهم ذلك في تنشيط وإعادة تنشيط فكر بورديو أينما ذهب.
وداخل ثقافته الأم نجد أجهزة أخرى تعيد إنتاج المفكّر، لعلّ أبرزها صدور أعماله في طبعات جديدة مع تعليقات وشروحات بما يحيّنها ويجعل كل طبعة قريبة من اللحظة الزمنية التي صدرت فيها.
الحضور في الصحافة أحد شروط ذهاب مفكّر أبعد من دوائر القرّاء المتمرّسين
نجد أيضاً مدوّنة تتراكم باستمرار حوله بدءاً بصدور سيرته في كتاب لـ ماري آن ليكوريه، وهناك عمل حاول فيه باتريك شامباني مسك مجمل فكر عالم الاجتماع الفرنسي وحمل عنواناً بسيطاً "بيير بورديو".
نقف على تنويعات ضمن هذا الشكل من الكتابات كأن نقرأ كتاب "لماذا بورديو؟" لـ ناتالي هاينيك، و"مدخل إلى سوسيولوجيا النزعة الإيهامية: دعوة لقراءة بيير بورديو" لـ آلان أكاردو. وهناك أيضاً أعمال تبسيطية مثل عمل بيير مونييه بعنوان "بورديو: مدخل"، وكتاب الثنائي آن جوردان وسيدوني نولين بعنوان "سوسيولوجيا بيير بورديو" أو نقرأ مقاربة حول عالم الاجتماع الفرنسي من زاوية خاصة مثل كتاب "بورديو والإرث الجمهوري المرفوض" لـ ميشيل إليار و"حين دخل العقل على السياسة" لـ جان بودوان.
هذه الببليوغرافيا التي جرى إنتاجها حول بورديو ترفُدها قائمة لانهائية من المقالات العلمية والأبحاث الجامعية، فضلاً عن الأطروحات التي تلتمس مفاهيم بورديو ومنهجياته وتذهب بها إلى تطبيقات جديدة ومستحدثة.
حتى المقالات الصحافية تعيد إنتاج المفكّر. بل لعلّها شرط من شروط ذهابه أبعد من دوائر القرّاء المتمرّسين، ولنا أن نذكر مقالاً طريفاً صدر في 2013 في موقع "بيبليو أوبس" بعنون "لماذا على الروائيين الفرنسيين أن يقرأوا بيير بورديو؟". وتكاد لا تمرّ ذكرى ميلاد أو رحيل لصاحب نظرية الحقول الاجتماعية دون أن يُستعاد. بالمناسبة اليوم هو ذكرى ميلاده!
وضمن نفس أفق الوصول إلى جمهور واسع، لا يمكن أن ننسى الشريط الوثائقي "علم الاجتماع رياضة قتالية" (2001) والذي قد تحوّل إلى مرجع حقيقي حيث يوصل للمتفرّج وجوهاً من شخصية المفكّر الفرنسي وشذرات من فكره في ترابط سردي لن يجده في كبته أو الكتابات عنه.
ومع بورديو سنجد عنصر رعاية آخر لم يحظ به كثيرون، وهو تواتر إنتاج القواميس حوله، آخرها وأضخمها "القاموس العالمي لبورديو" (2020) تحت إشرف جيزيل سابيرو، وقبله صدر "معجم بورديو" (2010، معرّب بترجمة: الزهرة إبراهيم) لـ ستيفان شوفالييه وكريستيان شوفيريه، و"مفردات بورديو" (2003) لـ شوفيريه وأوليفييه فونتان. ولنا أن نضيف مجهودات أخرى تندرج ضمن نفس الأفق القاموسي كالكتاب الجماعي "الرمزي والاجتماعي. التلقي العالمي لفكر بيير بورديو".
بطيف "الأجهزة" هذا الذي يرافقه، بات تواصل حضور بورديو أمراً منطقياً. وهذه الرعاية التي يحظى بها يبدو أن معضلات عالمنا هي التي ستجدّدها من زمن إلى آخر. رعاية يُفترض أن تؤمّنها نُخب كل جيل، ليس مع بورديو تحديداً، بل مع كل مفكّر جدير بذلك. وحين تتعطّل هذه الرعاية نعرف أن أسئلة كثيرة ستبقى بلا إجابات.