تهتمّ الباحثة والمترجمة التركية بيرين بيرسايجيلي مُوت، بالثقافة الفلسطينية منذ سنوات، وقد أثمر هذا الاهتمام العديد من المقالات، إضافة إلى الكتاب الذي صدر عام 2019 عن دار نشر "أسطى" التركية بعنوان: "بين أشجار الزيتون: بورتريهات من الأدب الفلسطيني". في مقدّمة كتابها الذي يسلّط الضوء على أسماء بارزة في الثقافة الفلسطينية، تلاحظ الباحثة أن الكتابات التركية حول الأدب الفلسطيني قليلةٌ للغاية، رغم تقارب الثقافتين العربية والتركية.
وتُرجع المؤلّفة أسباب اهتمامها بالحقل الثقافي الفلسطيني تحديداً إلى رغبتها في عرض القضية الفلسطينية العادلة للأتراك بشكل صحيح، لأنها ترى أن التضامن مع فلسطين عبر الاحتجاج أمام السفارات لم يعدْ كافياً. كما ترى أن الاهتمام التركي بالأدب الفلسطيني محدود، حيث يهتمّ الأتراك بفلسطين من نواح سياسية وأيديولوجية أكثر. إضافة إلى هذين السببين، تشير بيرسايجيلي مُوت إلى أنه رغم ما تعرض إليه الشعب الفلسطيني عبر عقود، إلّا أن لديه موقعه المتفرّد في الأدب العربي، والذي يجب أن يتعرّف إليه الأتراكُ بشكلٍ أفضل.
تعترف الباحثة بتأثُّرها بالأدب الفلسطيني المقاوِم خلال سنوات بحثها، وأنها أحسّت أنها مدينةٌ لهؤلاء الكُتاب والفنانين، وأن عليها التعريف بهم في تركيا. وقد سبق لبيرين بيرسايجلي مُوت أن شاركت في إنتاج برنامج وثائقي حول رموز في الثقافة الفلسطينية، تناولت في حلقاته الخمس أدباءً وفنانين فلسطينيين، هم: غسّان كنفاني، ومحمود درويش، وناجي العلي، وفدوى طوقان وسميح القاسم. تذكر المؤلّفة في كتابها أنها التقت ــ خلال عملها على هذه الحلقات ــ بعائلات وأصدقاء هؤلاء الكُتّاب والفنانين، وأجرت معهم العديد من اللقاءات. وقد عُرضت هذه السلسلة على قناة TRT التركية عام 2013.
التضامن مع فلسطين بالاحتجاج أمام السفارات لم يعد كافياً
تضيف بيرسايجلي مُوت أنها لم تجد هذه الحلقات كافية، ولذلك قرّرت بعد عامين من عرضها أن تنقل التجربة إلى صيغة كتابية. هكذا، جرى تقسيم الكتاب إلى خمسة أقسام، حيث أفردت لكلّ شخصية قسماً، وبدأت بغسّان كنفاني. تناولت في هذا القسم موضوع النكبة الفلسطينية والحياة في المخيمات من خلال عرضها لحياة كنفاني وكتاباته، كما تعرّضت أيضاً لعلاقته بالمناضل الفلسطيني جورج حبش، مؤسّس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". وسلّطت الضوء على الدور المهمّ لكنفاني في القضية الفلسطينية طوال حياته، وطريقة اغتياله التي جعلت منه أيقونةَ نضال فلسطينية لا تُنسى. وبحسب الباحثة التركية، فإن كنفاني قد أثبت للعالم أن الكتابة ليست فعلاً فنيّاً فقط، ولكن طريقة حياة، كما أنه أظهر الجانب الإنساني للمقاومة من خلال أبطال رواياته. واختتمت هذا القسم بترجمةٍ لها عن الإنكليزية لقصّة "أرض البرتقال الحزين".
يتناول القسم الثاني من الكتاب الشاعر محمود درويش، منذ طفولته وبداياته الشعرية والتحاقه بـ"الحزب الشيوعي" وانتقاله لاحقاً إلى مصر، وتعرّفه إلى الوسط الثقافي هناك، وصولاً إلى أهمّ المحطّات في حياته حتى رحيله. وقد سلّط هذا القسم الضوء على أهمية درويش في الثقافة الفلسطينية والعربية، ودوره في تطوّر القصيدة العربية. وترى الباحثة أن جملة درويش المعروفة: "كانت تُسمَّى فلسطين، صارت تُسمَّى فلسطين"، أصبحت ميراثاً للإنسانية بأكملها. واختتمت هذا القسم ببعض قصائد الشاعر الفلسطيني بترجمة عن العربية للأكاديمي محمد حقّي صوتشين.
في القسم الثالث، المخصّص للشاعر سميح القاسم، تناولت المؤلّفة بدايات صاحب "سقوط الأقنعة" الشعرية، والتحاقه بالعمل السياسي، وعلاقته بشاعر المقاومة الفلسطينية راشد حسين. كما تناولت أيضاً علاقته بمحمود درويش والفترة التي عاشا فيها معاً، والرسائل المتبادلة بينهما في مرحلة لاحقة. وألحقت بهذا الفصل أيضاً ترجمةً لبعض قصائده عن العربية، للمترجم نفسه.
في الفصل الرابع، عرضت الباحثة حياة رسّام الكاريكاتير ناجي العلي، وقصّة خروج موهبته من المخيم، وتنقّله بين أكثر من عاصمة عربية، ومقاومته بالرسم، وابتكاره لشخصية حنظلة التي صارت أيقونة نضال عالمية. كما تناولت قصّة اغتياله في لندن، وألحقت بهذا الفصل بعضاً من صور ناجي العلي الشخصية، التي حصلت عليها من عائلته، بالإضافة إلى بعض رسوماته.
لفلسطين موقع فريد في الأدب العربي وعلى الأتراك اكتشافه
ألحقت بيرين بيرسايجيلي مُوت كتابها بقسمٍ عن الشاعرة فدوى طوقان، التي تصفها بأول شاعرة من شعراء المقاومة الفلسطينية. وتتناول حياتها وقصّة تركها المدرسة وتثقيف نفسها بنفسها، ودور أخيها إبراهيم طوقان في تشجيعها على كتابة الشعر ونشره. كما يتناول هذا القسم أسفار طوقان، وعلاقتها بالكاتبة الفلسطينية سميرة عزّام، والرسائل المتبادلة بينهما، وأبرز المحطّات في حياتها. وكما في الأقسام السابقة، تُنهي الباحثة التركية هذا القسم ببعض القصائد لطوقان، بترجمة محمد حقّي صوتشين.
ولعلّ أهم ما يوصف به هذا الكتاب، هو ما ذكرته الروائية التركية جيهان أكتاش في تصديرها له، حيث تقول: "تأتي أهمّيّة هذا الكتاب من جعله القرّاء الأتراك يعيشون مع شخصيّاتٍ أدبية فلسطينية من لحمٍ ودم، بدلاً من معرفة أسمائهم فقط". وبالفعل، فقد استطاعت الباحثة التركية بيرين بيرسايجيلي موت أن تقدّم صورةً حيّة لشخصيات ثقافية فلسطينية بارزة، في محاولة جادّة لتعريف الأتراك بقضيّة فلسطين ونضال شعبها عبر مرآة الأدب والفن، وليس السياسية فحسب.
* كاتبة ومترجمة من تركيا